Bakaiyyat
بكائيات: ست دمعات على نفس عربية
Nau'ikan
قلت، وأنا أثبت عيني عليه: حلمي الأكبر، يسعى الإنسان وينسى، وينام ويحلم، لكن لا ينسى الحلم الأول.
غضب القاضي، دمدمت الجذوع الستة، اهتزت أغصان الأذرع، واضطربت أوراق الأيدي. هتفت صائحة: يا قاضي العدل، أنا أعرفه، أستحلفكم بالله دعوه.
ندت عن الجذوع السوداء ضحكة خشنة. ابتسم القاضي: ندعه؟ قد صدر الحكم أمر الجبار، وإن الأمر أهم. اقرأ يا ولدي التهمة.
بدأ الصوت يرتل البنود المدونة على اللفافة الصفراء. ثبت كياني عليها، فلم أصغ لما يقول. صدمت أذني كلمات المجهول، الأحلام، الثورة، أشواك الفتنة. نادتها روحي: أنت؟ تأتين إلي؟ وأرى وجهك وأكلمك وأسمع منك؟ الآن أموت قرير العين، حلمي الأوحد يتحقق فتذهب كل الأحلام، إني الآن أكفر عنه أمامك، هل تكفيك الآلام؟ ما زلت بآخر أنفاسي أذكر تلك الأيام. - وأنا أذكرها، كنا جيرانا. - كنت أعيش، أفكر، أتنفس لك كالصوفي الزاهد لا أقصد إلا وجهك، أقرأ ما أقرأ، أكتب كتبا عنك ولك. حين تمرين وألمح وجهك بالصدفة، ينفذ كالقمر الناصع من نافذة الشرفة، وتهلل سفني الغارقة على صخر الوحشة، أفرح كالطير المقرور، وتعروني الرعشة، وجد الطائر عشه أبدا لم تكترثي بي، ما صعدت النظر إلي، ما أحسست بيتم القلب، حين أتيت وزرت الأهل، سلمت عليهم ما سلمت، قالوا، قلت، وأنت لزمت الصمت، كنت أحبك أنت وغيرك ما أحببت، غيرك ما أحببت، غابت عيني وتحيرت، مر جواد اللحظة وترددت، لم يرجع أبدا، فات الوقت، فات الوقت، ركضت سنوات العمر وشرقت وغربت، طوفت بمدن البشر، عرفت، جهلت، نسيت، وغرقت ببحر الإثم طفوت، وتطهرت وعشت ومت. غيرك ما أحببت، تعبر أيامي المقتولة، أصحو، أعمل، أضحك، أحزن، وأنام ، لا أبصر إلا وجهك، إلا عينيك، ويقتل يوم يتبعه يوم، تقتل أعوام وجواد اللحظة مر، ولن ترجعه الأحلام، لكن أحيانا أحلم أنك جنبي، فأكلمك وأضحك معك، وأضحك من أوهامي، وأمد يدي باللقمة نحوك، أغلق شباكي حتى لا تؤذيك الريح، أشكو الأيام إليك، وسخرة أكل العيش، وأشد غطاء الفرش عليك، أقبل وجهك قبل النوم، أمر بيدك على أوجاع القلب، وأسحبها فوق الصدر، وأقبلها، وأوسدها رأسي لتنام. أنتبه لنفسي، أعرف أني كجنين في بطن الأم، يسألني عقلي: لم تتناول هذا السم؟ لم تستسلم للأفكار الثابتة وعقدة أوديب وسائر أمراض الوهم؟ ما أغبى العقل المغرور، وما أغبى الطب! يتوقف عند الظاهر، لا يسبر غور القلب، أحيا كالناس، وتحيين ككل الناس، وندور ونأكل، نسخط نرضى، نلقي الأولاد إلى العالم، نشكو ظلم الزوج، جحود الأبناء، الأهل، الأصحاب. ونسعى في أسواق الرزق، ولكن هل ينطفئ الحلم؟ الحلم الأول محفور في الجلد، اللحم، العظم. - هل تحلم أبدا؟ السياف أمامك، والسيف يهدد بالقتل. - هل ينجو الإنسان من الظل؟ - قرءوا التهمة، والتفوا حولك ليفكوا القيد. - يكفيني أنظر في عينيك. - لم جئت؟ ومن جعلك تدخل من هذا الباب؟ - لما أغلقت بوجهي الباب، سدت في وجهي الأبواب، ووقفت على باب العالم، أطرق، أطرق، لا يفتح لي، تنكرني السدة والأعتاب، ويطردني الحجاب. - العين بعين، والأذن بأذن، هذا هو نص الحد. - لا، لا داعي للأعين والآذان.
دوى الصوت في أذني، استطرد بعد قليل: نحن ننفذ نص الحكم، هيا يا سياف، وضع ذراعيه حولي، لفحتني أنفاسه الثقيلة، فك القيد عن اليدين، وانحنى ليفك الأغلال عن القدمين، هتفت حبيبتي: افتح عينيك!
همست: يكفيني أنظر في عينيك.
قال الجذع الأكبر الذي أمسك يدي اليمنى: نريحه من هذه اليد، تكفيه الأخرى. أمسكها السياف، هزها قليلا، لمس الرسغ، طلاه بدهان أسود، لمع حد السيف، ثم هوى. صرخت من الألم، ربت على كتفي: عندي لك زيت مغلي من أفضل نوع.
انحدر لأذني صوت: وماذا يعمل بهذه؟ يمكنه أيضا أن يستغني عنها، هوى الحد على رسغ اليد اليسرى. طش الزيت المغلي، اختلط صياح بنشيج بكاء، ضحكات تعلو، لا زلت أميز منها: يمكنه أن يكتب أو يرسم بالفم، هذا أيضا فن. تحسست يد خشنة ساقي اليمنى، أزاحت الشعر عند التقاء الساق بالفخذين، دهنتها بعلامة سوداء، وهوى حد السيف. لم أقو على الصراخ، حتى الكلاب تكف عن العواء عندما يذبحها الألم. في ضباب الغيبوبة تحدرت همسات وهمسات كقطرات المطر. تسقط الآن على رأسي، يتردد صوت: رأس هش! رأس هش! شدوني إلى المنصة، كفان ثقيلتان تقبضان على شعري، وتضعان جبهتي على حجر أملس ناعم، انداحت قطرات رطبة، الكف الثقيلة تدعك الرقبة، تزيح الشعر عنها، تدلكها بدهان لزج تغمض الأعين، تنكتم الأنفاس، تهرول أقدام الذعر بلا صوت، رأس هش! رأس هش! أبكي، أفتح عيني، وأتحسس رأسي.
العودة إلى بهو العرش
الدموع لا تزال في عيني، صدري يرتجف، وينشق كأرض روعها الزلزال، تلمس كتفي يد خفيفة، أفتح عيني فأراني أستند على جدار وأراه: أنت؟ - تحلم كالعادة بالناسوت والناموس؟ - أحلم؟ بل فزعني الكابوس. أتحسس ذراعي ويدي، أمد الساقين، أتذكر وأمر على رقبتي وأضغط على عروقها ولحمها بشدة. - حاذر! تخنق نفسك.
Shafi da ba'a sani ba