Bakaiyyat
بكائيات: ست دمعات على نفس عربية
Nau'ikan
دوى صوت كبير الجوقة الكالحة كصوت بوق أو نذير. كان معنى الإشارة الآمرة أن يكف الصبي عن عزفه، أن أهبط من مكاني على الصخرة، أن أقبل على فصل العذاب الجديد. وقبل أن أستجمع بقية قوتي لأنحدر على الطريق الوعر المليء بالحصى والحجارة المدببة كالسكاكين التفت لأنظر للنسر. كان قد غادر موضعه، هل طار ليلحق بالسيد؟
سبقتني الجوقة إلى مكان العمل، وسبقني الصبي إلى المثول بين أيديهم. في لحظات فتحوا حقائبهم، أخرجوا منها ملابس العمل الزرقاء، وسرعان ما ارتدوها، أخرجوا منها - لشدة عجبي - فئوسا وجرافات صغيرة بأيد طويلة، وأكياسا وجرادل وعصيا كالملاعق الكبيرة، تنتهي بعضها بأطراف مسنونة كالأشواك. - هيا للعمل.
هتف كبيرهم فانطلقوا بأدواتهم أسرع من خفقة جفن. هم أنفسهم الذين بدوا منذ قليل كأفراد الجوقة في قداس أو مأساة، أصبحوا الآن يجرون ويذهبون ويجيئون بفئوسهم، وحفاراتهم الصغيرة، وعصيهم وأكياسهم راحوا يشقون الأرض، ويخرجون التراب في أكوام لا تلبث أن تتراكم كالكثبان الصغيرة. - هيا.
كنت قد وقفت أراقبهم، لا أدري ماذا أفعل. سرحت بي الأفكار على الرغم مني، كأنني أشاهد شريطا يدور في الخيال، حتى نبهني الصوت من جديد: للعمل. أتظل حياتك تحلم وتفكر؟
تحركت، ولكن في غير اتجاه.
خذ فأسا واحفر، أولم تسمع ما قال السيد؟
قلت معتذرا: نتعلم مسك الفأس، كما نتعلم مسك القلم. - ماذا تنتظر إذا؟ أتكون يداك أحن على الأرض البائسة من العامل والفلاح ؟ هل تخشى أن تجرحها؟ إن الأرض ترحب بجراح فوق جراح. - لا أخاف يا سيدي ، ولكن لا أدري. - هيا، هيا. يكفينا ثرثرة وهراء، تعال وجرب أن تفتح صفحة هذا العالم، أن تقرأ فيه بالآلة والعتلة والفأس. - الفأس؟ - نعم. ألم يسبق لك أن لمست فأسا؟ تنوحون على الفلاحين دون أن تجربوا الفأس. تمجدون الأرض وتنزهون أيديكم وستراتكم اللامعة من الطين. هيا، هيا.
تذكرت المرة الوحيدة التي لمست فيها فأسا. كنت في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من عمري عندما زرت الحقل، في يدي كالعادة كتاب، وفي قلبي عرائس الأحلام، وآمال المستقبل، وحسرات الحاضر، ورياح السخط، وأشواق البعد تصطخب في الضباب. كان الكتاب قد استهواني على الرغم من صعوبته، فقد كان بالفرنسية التي لم أحسنها، ورحت بعنادي أستشير القاموس الصغير بحجم الكف، الذي لم يكن يترك «سيالة جلبابي» الأبيض. قصة حب كانت، والبطل اليائس كانت محبوبته تخلص للزوج المنتظر المخلص، زوج يعرف واجبه ويؤدي عمل الدولة كالساعة أو دورات الأفلاك، البطل اليائس عقد العزم على الانتحار، يجلس إلى مكتبه؛ ليكتب رسالة يطلب فيها خدمة من صديق، والخدمة أن يرسل إليه غدارة. وثعبان النيل الصغير يتمدد ويسحب جسمه المتلوي اللامع ويقترب مني. التفاتة سريعة إلى شاطئ الترعة، سرحة قصيرة مع دموع البطل المنتحر، وانتفاضة مذعورة يغيب فيها العقل، ويتحول الجسد إلى عصفور مخبول أو حجر مندفع بقوة لا يعلمها. جريت من الجرن المكوم بالقش إلى حظيرة البهائم. أخذت ألتقط أنفاسي المبهورة أمام الأبقار والحمير التي رفعت رءوسها عن العلف، وراحت تنظر إلي متعجبة، لم يكن الفلاح العجوز الضئيل الوجه هناك، جريت إلى حجرته، وأنا أهتف: ثعبان! ثعبان! خرج الرجل من الحجرة في هدوء كعادته، بين يديه إبرتان كبيرتان، وخيوط من الصوف الأحمر، قال في هدوء: هل أمسكته؟ - أمسكته؟ لقد جريت منه. - شاطر، أين رأيته؟
قلت وأنا أتخفى في ظله: عند الجرن، لا بد أنه تسلل في القش. - في هذا الحر. كان يزحف (نعم يزحف، في حياتي ما كرهت مثل الزواحف، الدودة ترعبني، البرص يشيب شعري، يكتم نفسي أكثر من تمساح، عين الثعبان تلسعني في النوم وفي اليقظة، ترهبني أكثر مما ترهب حمامة مسكينة يهم بابتلاعها، لن أنسى المنظر في حوض الزجاج!) قال العجوز: سنجده إن شاء الله، اتجه ناحية الترعة. مشيت وراءه، قال لي: استرح أنت، وسأحضر وأعمل الشاي، مرت لحظات قصيرة، عاد بعدها رافعا الفأس في يده، يتدلى من حده ثعبان صغير ينزف دما. ها هو يا عم - لعنها الله - ننفضها عن رءوسنا وأرجلنا كالبراغيث. صحت به: ارمه في الترعة، أدفنه في التراب! ادفنه؟ أنت طيب القلب. ها هو راح! وذهب إلى الباب وطوحه بذراعه السمراء البارزة العروق. اقتربت منه وأنا أنتفض، أمسكت الفأس لأول وآخر مرة!
كانت عينا الكبير تحدجني بنظرات كلدغة الثعبان. تقدمت أتناول فأسا مدها إلى أحد الرجال الباقين في صبر يحسد عليه. همس الصبي: تقدم، تقدم، افعل ما يقولون. طمأنته: لا تخش علي. وأخذت أرفعها وأنزلها في الحفرة التي بدأت تتسع. أخرجني الصوت الغاضب من صمتي: احفر جيدا، ما هكذا الحفر، انظر لرفاقك، علموه كيف يمسك الفأس ويصوبها. أقبل أحدهم علي، أمسك ذراعي وشدد قبضة يدي على طرف الفأس، رفعها بقوة وهوى بها إلى القاع. أنت الأرض بحشرجة المحتضر. ظهر التراب تحتها بنيا غامق اللون كجلد حيوان مسلوخ. تناثرت حبات التراب في عيني، فاحمرت وسحت منها دمعتان تقطران على خدي. قهقه الكبير، وأخذ يلكز رفاقه في جنوبهم، فيجاوبونه بالضحك. مال أحدهم على جنبه في عمق الحفرة، ومسح العرق عن جبهته، وأخذ يضرب كفيه: مثقفون، مثقفون.
Shafi da ba'a sani ba