Bakaiyyat
بكائيات: ست دمعات على نفس عربية
Nau'ikan
تميل أجسامهم الضخمة كجذوع الأشجار العتيقة، وينحون سدا واحدا، أما البقرة؛ بضربة واحدة تفتح البطن. عجبا لم لم تنزل قطرة دم؟! والبقرة تجتر وتحلم. وكأن السود صغار منها ترضع، أو راعية تحلب لبن الضرع. يرفعون رءوسهم، وكأنهم رأس واحدة مخيفة تتفرس في. ماذا أبصر؟ أوراق تخرج من بطن البقرة، أقلام أقلام أقلام، كتب كتب كتب، لا يظهر فيها رسم غلاف أو عنوان. - أرأيت؟ - أنحني وأفحص بعضها، إنها كتبي، هي نفسها التي فرحت بها ذات يوم. ألمح فيها أوجه ثوار، زهاد، حكماء ومجانين، شاعرة تبكي ابنتها، أبطال مآس مهزومين وشهداء مكسورين. والبقرة تجتر وتجتر، من عينيها يسقط دمع مر. ينهضون على أقدامهم، يردون السكين للصبي يزأر صوت واحد: بطن الشاعر، أو بطن البقرة.
أرفع وجهي للقمر الساكن في وهج بحيرة، أنظر للموج الهادر يبدأ ويعيد الكرة. تلمس كف كتفي بحنان. تسحبني في رفق. يبرز منديل أبيض. آخذه وأجفف دمعي. أسمع صوتا يأمر: هيا للصخرة والنسر.
جروني إلى الصخرة. النسر هناك، يشتعل الجمر بعينيه، يرفرف بجناحيه، أتردد، تدفعني الأيدي، هيا، لا تتلكأ. أنظر للعازف فوق الناي، يشد القدمين حزينا مثلي، أبدا لا يرفع عينا عن ظلي: أنقذني. أنشد لحنك غني، كن في المحنة عوني. يضحك العمالقة الخمسة، ينشدون في صوت واحد: لن ينقذك اليوم سواك. والمنقذ من ينقذ نفسه. أهتف: كيف وأنتم تجتمعون علي؟ كيف سأفلت من قبضتكم؟ ويغنون غناء الجوقة: نحن نعرفك بنفسك، نحن نعرفك بنفسك!
نقترب من الصخرة، يتهلل وجه النسر، تسري الرعدة في أعضائي وأناديه: يا سيد هذا الصخر. إن كنت ملاكا أو شيطانا خلص روحي من هذا القهر. يتبادلون النظرات، يرفعون رءوسهم للنسر، ثم يحنونها خشوعا، يزداد خفق الجناحين وتوقد العينين. أوشك أن أهتف به: جوعان في مأدبة النسر الجائع، ظمآن يقيد بالحجر الظامئ. أين الخير وأين الشر؟ ينادي أحدهم: الصبر! الصبر! وسيأتي دورك قبل الفجر.
في لحظة يلتفون حولي. يصرخ أحدهم في الصبي، فيفيق ويمد إليهم يده بالحبال. ينهمكون في ربط يدي وساقي على الصخرة، أنظر وجه القمر وأضرع للبحر.
ها أنا مربوط للصخرة. أنتظر عذابي من أيدي السحرة. أتوقع أن أجلد أو تبقر بطني كالبقرة. الشر الكامن في أعينهم يطلق شرره، بعد قليل سيغادر وكره.
لكنهم لا يتحركون، جلسوا أمامي في صف واحد، كأنهم يتفرجون على قرد مغلول. يتغامزون أحيانا، يخرج أحدهم من جيبه جريدة مصورة ويتسلى بقراءتها، يستغرق الثاني في تأمل القمر والبحر والشاطئ، يخرج ورقة من جيبه يسندها على حقيبته، كأنه يتأهب لكتابة قصيدة، يدفن الثالث رأسه بين يديه، ويستسلم للنوم وأسمع شخيره، يتطلع الرابع إلى ساعته وينظر للنسر. أما الخامس فيراقبني ويرصد حركاتي، وكأنه سيقدم تقريرا علميا عني. بعد قليل ينهشني النسر. أعرف ألا أمل ولا فائدة من الصبر. أصرخ فيهم: سفاحون وجلادون، أسنان جراد معلون، هل غفلت عنكم عين القانون؟ أظننتم أن الأرض خراب والناس نيام لا يصحون؟ من أين خرجتم! من علمكم حمل السوط مع السكين؟ مرغتم وطني في الطين، يا أكلة لحم البشر النهمين، صرتم أمراء وسلاطين، وبنيتم عرشا فوق قبور المهزومين، إنكم الجلادون المجلودون. إن الواحد منكم تدرون، أم أنتم لا تدرون؟ إنكم الجلادون المجلودون. إن الواحد منكم سجان وسجين، جزار مطعون من نفس السكين؟ قارئ الجريدة تائه في صفحاتها. والمتململ لا يكف عن النظر لساعته. والنائم لا يصحو، بل يرتفع شخيره. أما الجالس فليكن جاره، ويقول بصوت عال: النغمة القديمة، مسكين لا يعرف شيئا. يزداد يأسي، فأعاود صراخي: أنا من جيل مهزوم، حاولنا نصلح وضع الكون المشئوم، خرج العالم من محوره، زاد الظلم على المظلوم. يا كم قلنا وكتبنا والجرح قديم، حتى صرنا كالبوم. الحرية تذبح والعدل يتيم.
ضحك كأني ألقيت دعابة. أغرق في الضحك، وقال: قلنا وكتبنا! جبل الأقوال وثرثرة الكاذب والدجال. أين الأفعال؟ أين الأفعال؟
ينتبه النائم، يلقي القارئ جريدته من يده، ينظر بقلق إلى ساعته ويعتدل، يشير المترقب للنسر فيتحفز ويرتفع جناحاه، ويندفع كالسهم نحوي. في لحظة يصل إلى هدفه، تؤلمني الطعنة، ينفتح الجرح، يرجع إلى الصخرة، يتحفز، ويرفرف بجناحيه، ينطلق الظل الأسود، تزداد الطعنة ألما، يتدفق دم، تسقط قطرات من منقاره، تنفذ عيناه بلحمي كوميض البرق، أصرخ من ألمي: النسر يفتت كبدي. ينهش لحمي، ويمزق جلدي.
يردون بصوت واحد: ذنبك أنت. - لا المعجزة صنعت، ولا الكون المقلوب عدلت. - لكنك قد فكرت، والنار سرقت. - والسارق أصبح مسروقا، والفكر تدلى مشنوقا، ما عدت جديرا باللعنة. - فلماذا تخنق مخنوقا؟ - اسأل نفسك، اسأل هذا النسر!
Shafi da ba'a sani ba