وأما الإسكندرية، هنالك كان يعمل جوني السمين عادة، رباه! ما أشد ولعه بالقنينة! وكان يعرف مع ذلك أن يبقى ثابتا على ساقيه، وأن يبدأ بالخدمة باكرا، وكان مطلعا على جميع تاريخ مناره عن ظهر القلب، فإذا ما تكلم عنه قيل إنه أوضح للإسكندر الأكبر استعمال اللاسلكي، والذي وددت أن أعرفه، وليس في الكتاب إشارة إلى ذلك، هو مقدار ما كان الحارس يناله في العهد الروماني القديم ...»
ويصعد الحارس في الدرج رويدا رويدا، والدرج أربع وثمانون، وما أكثر ما عدها! وهو إذا ما نظر إلى الشرق من فوق الرواق الأعلى أبصر من ناحية سان رفائيل وميض الفجر الأول الأخضر والأزرق، أجل، لم يبد بعد، غير أن فتح النهار سريع في شهر أغسطس على الخصوص، ومن يعرف مقدما آخر هذا السر المنير يمكنه أن ينتظر انتشاره، وإن الأمر لكذلك إذ يتسع خيط النور الضيق فوق الطريق كالمروحة التي تتفتح فتضئ كل شيء عند ظهور نور الشمس الناشئة. وقد حسب الملاح الشائب، الذي أبصر عند الصباح ارتفاع ذلك من البحر مئات المرات، تقدم الغالب الأعظم بتقهقر الليل المغلوب، وقد رأى النجوم تصفر فتأملها بضع دقائق بذلك الشعور الديني الذي يحرك الملاحين دوما.
حضر زميله ليقوم مقامه، وهنالك يمسك الحارس، الذي لبس ثيابه البلدية، خويذته، ويودع مسرعا وينطلق إلى منزله الصغير الأبيض، وتغني طيور النهار الأولى متفرقة على استحياء مع تكرار لحنها اللطيف، وذلك كما يسمع عند توافق آلات أحد الأجواق، ثم تشتد ثم تغرد صادحة، ويصل الحارس إلى بيته مغتبطا بذلك الضجيج البهيج، ومع ذلك يرى الناس نياما، ولا تصحو زوجه إلا لصرير الباب غير المدهون جيدا.
ويقف الحارس بضع دقائق قريبا من سرر الأولاد، ويتحرك أحد هؤلاء الصغار كما لو كان يشعر بوجود شخص آخر بجانبه، ويحس الحارس سعادة كبيرة، مدة دقيقة، لكون ابنه صغيرا بعد، فقد تنتهي الحرب قبل أن يأتي دوره، ويدفع هذا الخاطر بشدة، ولا يلبث أن ينام. «... أدين جديد؟» ويتعلق فكره بالكلمات التي ينتهي بها كتابه ، والمسيح ... الذي يأتي بعيد قيصر، يقرأ هذه القصة في هذا المساء ...
غارة البرابرة
1
يقوم البلد الذي أنجب بالمسيح على تلال منخفضة حجيرا متصدعا صلدا جديبا، وهو يمتد عبوسا باردا حاقدا عاطلا من الشجر، بعيدا من الأودية الخصيبة التي لا يصل إليها البصر، وتقوم في وسط صقع أدجن مدينة فخور مبنية من حجارة سمر وصفر، ويمتد في الشمال، وعلى مكان غير بعيد، وعلى مهل، بلد أخضر غني بالينابيع مستور بأشجار لطيف ناعم، وهذا هو الجليل. ومن يلاحظ في هذه الأيام ذينك المنظرين القريب أحدهما من الآخر يدرك من فوره الفرق بين الديانتين اللتين ظهرتا في ذلك البلد، فهنالك المعتقد اليهودي الرجولي القوي الولوع بالحياة والصراع، وهنا النصرانية النسوية المنثنية عن الحياة المتواضعة الراغبة في سلم رعائي، وما بين منظري البحر المتوسط هذين من تضاد ينم على خلاف بين النهجين، وما لمؤسسيهما من عيان أصلي كثير البعد جاعل للقدر والتاريخ منهما.
وتعلم العبريون الزراعة في كنعان، تعلمتها هذه القبيلة المؤلفة من بدويين ومن رعاة كانوا يعيشون كما يعيش بدويو اليوم في النيل الأوسط، وقد وجدوا أمامهم تجارا كانوا يستفيدون من طريق للقوافل قبل عصر أوميرس بزمن طويل. وكان العبريون قبل الفنيقيين، ثم مع الفنيقيين، يستوردون من اليمن، ومن الهند أيضا، توابل ولبانا وما يرغب فيه الملوك على ضفاف الفرات والنيل، وكانت تلك القبائل السامية تملك قطاعا وتزرع كرمة وزيتونا، ومع ذلك لم يكن البلد الفقير فلسطين «بلد لبن وعسل» إلا عند قياسه بالبادية؛ ولذا قضت الضرورة على سكانه بتعاطي التجارة، وفي فلسطين اغتنوا كما اغتنى جيرانهم الفنيقيون، وفي سفر القضاة نص على أن جمالهم كانت ذات قلائد من ذهب، ويمضي زمن، وينقضي دور النفي الأول، فيزاول أبناؤهم التجارة أكثر من قبل وسيلة للعيش، ولما تكرر هذا الحادث أجيالا كثيرة أسفر هذا التكرار عن زوال بعض القابليات ونمو بعض الصفات.
وكانت ثورات الماضي تقع على شكل هجرة، وهذا هو سر انتقال أمم كثيرة من بلد إلى آخر بين سنة 1000 قبل الميلاد وسنة 600 بعد الميلاد ، وهذا هو سر حدوث ثورات قليلة داخل حدود البلاد. وكان البدويون الذين لا يتصرفون في غير مراع هزيلة يبحثون عن مراع خصيبة بحكم الضرورة في البقاع التي تقرب السهوب والصحارى فيها من الأنهار. وكان الهكسوس، الذين هم من بدويي كنعان على ما يحتمل، قد هاجروا إلى مصر، وقد انقض المصريون على فلسطين، وقد طرد الحيثيون المصريين فطرد الآشوريون الحيثيين. وقد غزا العبريون البدويون فلسطين فطردوا الفلسطينيين الذين كانوا يوصدون طريق البحر المتوسط دونهم، وكان شمشون وداود رئيسي عصابات فتم لهما النصر على الفلسطينيين، واستولى داود على مدينة أورشليم المنيعة فصار بذلك رقيبا على التجارة نحو مصر، فدعي هذا الدور فيما بعد عصر داود الذهبي، ومن شأن مشاريع هذا الملك أن تؤدي إلى الاتفاق مع الفنيقيين؛ وذلك لأن العبريين كانوا يجهلون الملاحة، وهم لم يصيروا قط أمة بحرية كما لم يصر حفدتهم اليهود في ثلاثة الآلاف سنة التي أتت بعدئذ.
وما كان من صعوبة ملاءمة البحر، والزراعة من بعض الوجوه، للعبريين يفسر نشوء المنطق والثقافة الذهنية لدى هؤلاء القوم، كما يفسر الحوادث التي توالت بعدئذ بعض التفسير، يفسر خسرانهم لبلدهم ثلاث مرات متعاقبات، ونبصر مجددا أن قوة الشعب متصلة اتصالا وثيقا بضعفه، وأن الخيال المتوسط، الذي يبدو عند عدم الاستعداد الفني، قد يكون أساسا للفكر الجلي.
Shafi da ba'a sani ba