77

Bahr Mutawassit

البحر المتوسط: مصاير بحر

Nau'ikan

وفي مقابل ذلك وسع الرومان نطاق دولتهم الحربية على مقاييس أوسع مما صنعت إسبارطة، وعرفوا أن يوفقوا، ببدعة جديدة، بين سلطتهم العسكرية وسلطتهم المدنية، وبيان ذلك أنهم ابتدعوا وظيفة جديدة تشتمل على كلتا السلطتين في الأحوال الملحة، ابتدعوا وظيفة الطاغية، وتعبير الطاغية كتعبير الإمبراطور من مبتكرات الجمهورية فكان شيشرون، مثلا، يدعى إمبراطورا، وكان الطاغية يمثل شكلا من السلطة التي رضي بها جميع الأمم في غضون التاريخ بعد ذلك، وكما أن ألقاب «السناتيين» و«القناصل» ظلت باقية في مختلف البلدان حتى أيامنا بقيت كلمة «الطاغية» قائمة منذ القرن الرابع قبل الميلاد. وفي رومة جعلت تولية الطاغية مقيدة بشرطين: (1) أن يكون البلد في خطر. (2) أن يترك الطاغية سلطانه للسلطات المنظمة بعد انقضاء ستة أشهر.

وقد حافظ الشعب الروماني على تلك القواعد عن حسد حتى عهد سيلا ويوليوس قيصر، وكان العوام أكثر من الأشراف محافظة عليها؛ وذلك لانتخاب القنصل الشعبي الأول قبل الميلاد بأربعة قرون. وكان الرومان في البداءة قوما عاطلين من كل نفوذ خاص، ثم عرفوا، بما كانوا يستندون إليه من القانون ونظام الدولة، أن يقيموا حلفا مشتملا على المدن المجاورة، ولا تزال دولنا الاتحادية الحديثة تعمل بمبادئ هذا النظام.

وبما أن مبدأ الرومان في الدولة يقوم على الحرية، فقد غدا النظام أساس مستقبل الدولة العالمية القادمة، ولم يحتج الرومان لإقامة هذه الإمبراطورية إلى روح تجارية أوسع مما لدى الأغارقة، وإنما كانوا محتاجين إلى نظام أوثق مما عند هؤلاء. والرومان أكثر من الأغارقة ثباتا وإن كانوا دونهم إبداعا، والرومان أشد من الأغارقة وحدة وإن كانوا أقل منهم أفكارا. ومع أن الأغارقة لم يستطيعوا طرد غزاة الفرس إلا بعد هزائم قاسية دحر الرومان من فورهم، وهم أضعف من الأغارقة، أول هجوم قام به البرابرة السلت إلى خارج أسوار مدينتهم، وتجد في خلق الرومان الخصيب بالمبادرات جميع الصفات الأساسية الضرورية للسيادة العالمية، وكل ما كان يعوزهم هو علم الملاحة البحرية.

ولم يلبث الرومان أن تعلموا هذا العلم من منافسيهم القرطاجيين، وإذ كان الرومان شعبا بريا وحربيا، ولم يكن لديه غير جيش صغير مؤلف من ثلاثة آلاف رجل وثلاثمائة فارس، فإنهم تركوا، عن ضرورة، شواطئ حلف مدنهم لنهابي الأغارقة حتى القرن الرابع قبل الميلاد. وتدل الوثيقة الرومانية الرسمية الأولى التي لدينا على عقد معاهدة مع قرطاجة حوالي سنة 350 قبل الميلاد تقضي بحظر الملاحة على الرومان في المناطق البحرية من جنوب صقلية، وقد عقد الرومان معاهدة أخرى مع تارانت تقضي بحظر الملاحة عليهم في شرق البحر المتوسط ، وهكذا يبدأ التاريخ الروماني بهزيمتين كتاريخ كثير من مشاهير الرجال والشعوب.

والحق أن هذه المعاهدات أبرمت فور غارة البرابرة الأولى، مقتضية تضحيات مالية عظيمة لتجهيز البلد بالسلاح، وقد سحق الإتروريون من قبل غزاة السلت، وقد كسر الحلف اللاتيني، ومن المحتمل أن دهشت شعوب إيطالية حينما أبصرت رئيس البرابرة برينوس يرتد بغتة آتيا ضروب النهب في الطريق حين تقهقره، بدلا من استقراره بالبلاد، وقل مثل هذا عن ألاريك وجنسريك اللذين هما أول من شن من أهل الشمال غارة على البحر المتوسط بعد حين، فلم يكن لهما غاية غير النهب ولم يكونا ليهدفا إلى الاستعمار والإنشاء. وكانت الثروات، التي تتجلى لنا اليوم في المواد الأولية، تقوم عند أولئك على كنوز المعابد وذهبها وعلى من يأتون بهم من الرجال فيجعلون منهم عبيدا.

وفي العصر الوثني الذي عقدت فيه تلك المعاهدة مع قرطاجة كانت مبادئ الأخلاق أسمى مما هي عليه الآن، وكان القراصين يحترمون القوانين التي يسخر منها ربابنة الغواصات في الوقت الحاضر، فكان لا يمكن بيع التجار الذين يقبض عليهم في البحر عبيدا في البلاد الصديقة لرومة وقرطاجة، وكان يوجد في رومة مبدأ قانوني قديم يحظر بيع الإنسان عبدا في البلد الذي ولد فيه أو البلد الذي عاش فيه حرا.

ومع ذلك فإن هذه المنازعات كسفت كغيرها بين شعوب البحر المتوسط الثلاثة، وذلك بحادث جوي ظهر في سماء هذا البحر لم يلبث أن توارى في الشرق البعيد.

24

ولد الإسكندر الأكبر في ظل غابة مقدونية البكر، لا في كنف الأكروبول البهي، وأبصر في صباه الأسد، لا البوم الذي هو رمز الحكمة، وعرف أغاني الصائدين البرية والجموع الخاضعة، لا الأجواق الأثنية والخطباء الشعبيين، وقد رأى ملوكا وأمراء يسيطرون كما في زمن أوميرس. وقد كان أبوه أول من أراد تنوير هذا البلد الهمجي الذي لم يختلف جوهرا عن جرمانية في زمن يوليوس قيصر. وينشأ الشاب الإسكندر في وسط المجادلات الأسرية القاسية وفي سواء الأخلاق البربرية، فيشاهد تطليق أبيه لأمه التي هاجمها بنفسه في نوبة سكر ، وهذا يفسر ما بين الرجلين من حقد وتحرز كما يفسر السبب الذي لم يكن الإسكندر به غريبا عن قتل فليب، ومن المحتمل، كما يلوح، أن فليب لم يكن أبا حقيقيا للإسكندر. وجميع ذلك قد ترك أثرا بربريا في حياة الإسكندر وعمله فكان يمكن ألا يغدو غير نظير لجنكيزخان وجنسريك اللذين كانت إمبراطورية كل منهما قصيرة العمر كإمبراطوريته.

وما نراه من كون الإسكندر أحد رجال التاريخ الخالدين مدين، في الدرجة الأولى، لفكرة فليب الرائعة في دعوة أعظم مفكري الزمن إلى بلاطه ليكون مربيا لابنه، وبدا أرسطو الذي كون روح الأمير الإسكندر فيما بين الرابعة عشرة من سنيه والسابعة عشرة من سنيه رسول حضارة القرون القديمة العليا في بلد كثير البربرية، ويمكن تشبيه عمله بعمل ريح البحر التي تنثر ثائرة بعض الحبوب من خلال التلال والأودية لتنتج أكرم نبات في الغابة الابتدائية.

Shafi da ba'a sani ba