منظر وحيد، وما أضفاه فيدياس من الأزرق والأصفر والأحمر على هذه الأشياء، وما عرفها به بركلس على هذا الوجه، يبهرنا لا ريب، وتمضي خمسة قرون فلا يبدو عليها أثر من البلى كما وصفها بلوتارك، واليوم قد تغير كل شيء، وليس جمال نصف التمثال الفوقاني مثل ما كان عليه الأصلي، فهذا جمال جديد آخر، وهذا مثل وجه المرأة الشائبة الدقيق الغضن الذي لا يمت إلى صورة شبابها الناضر إلا بصلة بعيدة.
ويجعل نقصه أسطورة حية من الأكروبول، أسطورة أوميرية، تظل بشرية على قياسنا. وأول ما يرى من الأسفل مقدم البارتنون الغربي الذي أحسن حفظه على حين تبقى أقسامه الأخرى الخربة مستورة، حتى إنه لا يلاحظ أول وهلة عدم وجود سقف ما هيمنت على جميع الأكروبول أركان القسم الغربي الثمانية العظيمة مع عارضتها، وكلما صعد بدت روعة. وهنالك لا يفكر أبدأ في لقاء دينوي كما في بعض الأماكن بالبندقية ورومة وباريس، وهنالك لا يفكر في غير الآلهة التي يقترب منها. والحق أن كل شيء، من مراق وأعمدة، عظيم من غير أن يكون منيعا، وهذا كالآلهة الأوميرية التي يشعر القارئ بصلة مشتركة معها.
وإن المرء لفي مداخل الأكروبول العظيمة؛ إذ يرى نفسه في وسط الأنقاض؛ أي بين التماثيل التي لا رأس لها، وينقطع هذا الأثر المختلط بمقطوعة خفيفة كما عند بتهوفن، فيظهر من اليمين معبد أتينة نيكة، وتظهر أعمدته مع تيجانها وسوقها، ولكن الإلهات مقطوعة الرءوس.
وتلوح أجملها، وهي التي ترفع قدمها اليمنى، محمية بأجنحتها، وهي إذا ما أنعم النظر فيها طويلا لاح للناظر ظهور رأسها. وهنالك ينطبع هذا التمثال في الذاكرة إلى الأبد، شأن العاشق الذي يتعلم كيف يطارح خليلته المتوفاة كما لو كانت حية على الدوام، وما أكثر ما ينعش ذلك بحضور الآلهة! وبالقرب من ذلك، وفي الشمال الشرقي، وعلى الإركتيون، يثير مدخل كبير ذكرى إركته، والواقع أن آرس أراد اغتصاب أتينة، غير أن العذراء الخالدة قاومته، فسال ماء آرس على الأرض فولد منه إركته، والآن على وصائف أتينة أن يحملوا معبد إركته تذكارا لهذا الحادث وتكفيرا عنه وإن أدرن الظهر غيظا، وإذا نظر إليهن من الخلف وجدن مشابهات لأنصاف الظلال التي لم تر بعد أن تصبح من الناس، وهؤلاء هن الكارياتيد، هن الفتيات اللائي يحملن السقف على وسائدهن الحجرية، ويا لجرأة النحات! والنحات قد كره أن يرى الرجل امرأة تحمل سقفا، وهو الذي كان يريد إنزالها من زنبيله، ومع ذلك يبدو العمل من الخفة ما يظن الإنسان معه أنه أمام راقصة تنشر مظلة خفيفة فوق رأس الملكة في أثناء طواف احتفالي.
وأولئك عذارى سليمات ذوات شعور طويلة، ومع ذلك تكفي الفروق بينهن لدحض النظرية القائلة بوجود جمال إغريقي «رمزي»، وبين أولئك تدل اثنتان على معنى الحقد تقريبا، وتبدو اثنتان مليحتين أنيستين، وتبدو الخامسة وصيفة، وتظهر السادسة مفكرة متحرزة، ويا لتكريم إله لم يولد من امرأة!
وفي البارتنون الواقع على بعد ثلاثين خطوة يلوح كل شيء أعظم من معابد مصر أيضا، وتظهر تلك الأعمدة الدورية
114
نابعة من الأرض، ولكن الذي لا يجاب عنه هو اللون العسلي، هو اللون الأصفر المذهب، الذي يلوح جريه في ألف صدع، في ألف فلع رخامي مخطط، فكأن هذا اللون يستر أعمدة البارتنون بلحم حي.
ويجب، كما في كنيسة سيكستين الصغيرة برومة، أن ينعم النظر في الإفريز الفخم الطويل، الذي هو من بقايا بناتيني، ليشتمل عليه، وعندما يطلع منه على الجزئيات التي توجد في المتحف البريطاني، والتي رئي استنساخها ألف مرة، تحيى تلك الأفاريز المملوءة ظلا كالصواحب الشائبات، ويقطع هؤلاء الفرسان وزن الأعمدة المطول بهزجهم الأفقي الخاص، فيلوح كل شيء مشابها للآلهة الشابة أو للأمراء الذين تلاطفهم الريح برفع معاطفهم، وتثب خيلهم وتجاوز وتدور ذات اليمين وذات الشمال وتشب فيظن أنها ذات حياة، ولا امرأة هنا، والجميع فتيان عراة مملوءون حياة فيتتبعهم من هنا ومن هناك رجل أكبر منهم سنا، ويسفر هذا العرض الرخامي عن أثر غزلي ما دام جميع هؤلاء الفتيان مجتمعين للاحتفال بعذراء، بالإلهة أتينة، التي كانت تسطع بالذهب والرخام في صميم معبدها.
ومثلها جميع الآلهة الأخرى التي كانت تجلس على العرش هنالك فزالت، واليوم هي سجينة في المتاحف، والحق أن الآلهة ليست غير زائرة هنا، وهي ذات مزاج انتقادي كمعظم المتفننين الذين يطلب منهم أن ينشدوا مدائح الآخرين، وانظر إلى بوزيدون وأبولون على الخصوص تجدهما يشعران بأنهما زائران غريبان هنا فيفضلان الإقامة بمعبدهما الخاص، وتلعب أرتميس بطيات ثوبها وتدعو أفروديت آرس ليركع بجانبها.
Shafi da ba'a sani ba