لقد حرم فردريك، مرة أخرى، لأسباب دينية ظاهرا ولأسباب سياسية باطنا، وذلك من قبل البابا الجديد، وذلك بعد إصلاح ما بين سلفه وبين العاهل بعشر سنين، وفي الحين نفسه خلع هذا العاهل في ألمانية من قبل خصمه بإغراء من البابا كما هي العادة، وقد أتاه نبأ ذلك في أثناء سياحة كان يجوب بها إيطالية متسليا بفيول ونمور، ويلوح أنه خرج عن هدوئه المعتاد لمرة واحدة، فقد بحث بعد قليل عن الخزائن المشتملة على الكنوز الملكية وفتحها وقال صارخا: «أريد أن أعرف: أولا تزال تيجاني فيها!»
وتتراكم عوامل الخيبة فتؤثر فيه مشاعر عنيفة على حساب اعتداله الفلسفي، ومن ذلك محاولة الفاتيكان قتل هذا العدو الأكبر خلاصا منه، وتكون المشنقة وكومة الحطب جوابه، ويعرف الملك في سني حياته الأخيرة ما لأمير مختلط الدم من مصير مر، وذلك أن أمراء الألمان صرحوا بأنه النورماني الأجنبي وأن مدن إيطالية هاجمت الهوهنشتاوفني الألماني في شخصه، وقد صب الإمبراطور لعنته على المدينة العاصية: فيترب، فقال: «لن أجد الراحة حتى في الموت! لو كانت لي رجل في الجنة لاجتذبتها للانتقام من فيترب!» وفي ذلك الحين اقترح على جميع أمراء أوروبة مصادرة أملاك الكنيسة، وما كان الأمراء لينفروا من هذا الاقتراح، بل كانوا يعملون به، لا ريب، لو نال فردريك انتصارات جديدة وعاش طويلا.
وتشتمل يوميته التي كان يكتبها في أثناء تلك الأزمة الشديدة، وذلك بين مراسيم بالغة الأهمية، على تعاليق خاصة بقطع الأشجار على غير وجه شرعي، وبتعيين معلمين للبزاة، وعلى ملاحظات حول الخيل والنمار وحول تحويل العبيد السود إلى موسيقيين وحول غرس نخل من أجل يهود بلرم على حساب المبلغ المعين لتعليم حاجبه عبد الله خط العرب، وعلى حواش عن برج حمام في قصر بلرم وعن تفصيل ثياب لحراس الحيوانات وعن الأفاويه التي تستعمل في إعداد أطعمته المفضلة.
وإذا ما فكر في جميع ما حاول الإمبراطور فردريك تحقيقه وفي قلة ما ترك بعده أمكن قياسه بليونار دفنسي الذي لم ينجز غير أعمال قليلة على الرغم من عبقريته، ورجال كهؤلاء، إذا لم يكونوا مشبعين من أفكار لم يبلغ عصرهم من النضج ما يتقبلها معه، لم يتركوا في الأرض غير أثر أقل مما يتركه أناس مقتدرون مع عطل من الخيال، ولما حان أجل فردريك، بعد عهد أربعين سنة مملوء باضطرابات خارجية وبصائر داخلية، لم تكن إمبراطوريته قد وطدت بعد، وقد كان لأولاده الشرعيين وغير الشرعيين مصير فاجع في الغالب، ولم ينقض غير زمن قصير حتى توارى آل هوهنشتاوفن، وقد قتل آخرهم من قبل عدوهم الأزرق: دوك دانجو، ولم يدخل فردريك الثاني حظيرة التاريخ فاتحا، وقد طويت صفحة حروبه بزوال آله.
ومع كل ذلك لم يعرف البحر المتوسط سيدا آخر جمع مثله كثيرا من العرفان والإلهام والسلطان فأضاف تاج الحكمة إلى كثير من التيجان الملكية، ومن بين عظماء القرن الثالث عشر مثل الإيطاليان، دانتي وتوما الأكويني ، القرون الوسطى التي لم تقل بغير دين واحد ولم تأذن في غير دين واحد، وقد كان رجل العمل، الإمبراطور فردريك، الذي هو نتيجة توالد الشمال والجنوب أسبق من القديس والشاعر.
5
انتهى أمر الحلم الألماني حول جلال الإمبراطورية وسيادة العالم، وبذل سليل ملوك الألمان العبقري المعتزل جهدا كبيرا في عهده الطويل ليجمع بين بأس الألمان وخيال الطليان، ووهن نشاط أمراء الألمان وطموحهم في صراع غير مجد، وما كانت الإمبراطورية الألمانية لتخلف الإمبراطورية الرومانية لعدم وقوعها على شواطئ البحر المتوسط، وكان يمكن الإمبراطورية الألمانية أن تحول دون وحدة إيطالية فضلا عن ذلك.
ويلوح في القرون الوسطى، وفيما بعد القرون الوسطى أيضا، أن إيطالية وحدها هي التي اختيرت من قبل الطبيعة والتاريخ للسيطرة على البحر المتوسط، وكانت بلاد البحر المتوسط الأخرى؛ أي إسبانية وفرنسة، تولي وجهها شطر بحار أخرى في الوقت نفسه، وكانت بلاد اليونان قد نهكت منذ زمن طويل، وكانت بزنطة ومصر وأفريقية الشمالية بعيدة من مركز البحر، ومن يلق نظرة على الخريطة تقف إيطالية بصره من فوره لبروزها مشيرة إلى البحر المتوسط كالسبابة،
14
ومع ذلك لم تكن وحدتها لتحقق بغير شعور المجتمع الإيطالي القومي.
Shafi da ba'a sani ba