ومن هذا القبيل تندره في شاة سعيد التي بعث بها إليه، فملأ الدنيا شعرا بوصفها.
وشيء آخر طرأ على أغراض الشعر في بغداد، وهو رثاء الأئمة الذين رحلوا إلى جوار ربهم منذ أمد بعيد، وكان الشعراء من قبل يقصرون الرثاء على الأموات في حرارة المصاب ... ومن طريف ما يحكى في هذا الباب أن أحد الأدباء وقف عند بعض الشعراء على قصائد يرثي بها رجالا لا يزالون على قيد الحياة، فقال له: ما هذا؟! قال: إن هؤلاء لا بد أن يموتوا ويريد أهلوهم أن نجيد في رثائهم على البديهة وهو أمر صعب؛ ولذلك أعددت هذه المراثي لهم منذ الآن.
هذا أهم ما جد في بغداد من أغراض الشعر وفنونه، أما في أوزانه وقوافيه فيمكن إجمال ما جد فيهما في بغداد بما يلي: (1)
إحداث المزدوج، وهو جعل كل شطرين على قافية واحدة، وقد أكثر منه أبان بن عبد الحميد اللاحقي وأبو العتاهية الغزي وقد مر مثاله. (2)
الإكثار من النظم في البحور التي كان الأقدمون لا يطرقونها إلا قليلا، كالمضارع والمقتضب، وأكثر من سلك ذلك أبو العتاهية وابن المعتز. (3)
النظم على أوزان ولدها الخليل من أوزان الشعر الأصلية، وزاد عليه فيها بعض العروضيين. (4)
النظم على أوزان اخترعها بعض قدماء الشعراء في بغداد؛ كمسلم بن الوليد وأبي العتاهية وأبي نواس.
وفي بغداد اخترع المواليا، اخترعته بعض فتيات البرامكة على أثر نكبتهم، وتبعها الناس فيه. وكذلك اخترع الناس أوزانا كثيرة، ولكنها كانت تنظم بألفاظ وأساليب هي إلى لغة العامة أقرب منها إلى اللغة المعربة.
أما الموشحات فإنها من مخترعات الأندلسيين، وعنهم أخذها أهل المشرق في أواخر زمن بني العباس.
ولم يزل أمر الشعر في بغداد تقليديا إلى أن ظهر الشعراء المعاصرون، وفي طليعتهم الأستاذان الفاضلان معروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي، فانتقلا بالشعر إلى سننه القويم، واتخذا منه خير أداة لتصوير الأفكار العصرية ودقيق الإحساسات النفسية، كما اتخذا منه وسيلة لتسجيل الأحداث المهمة والكوارث الملمة، فإذا أنت تصفحت ديوان الرصافي اليوم تجده أصدق سجل لما عانته بغداد في زمانه من آلام وما تطلعت إليه من آمال، وما ألم بالعراق خاصة وببلاد العرب عامة من أفراح وأتراح، وما قاسته الأمة من أهوال وما تقلبت فيه من أحوال، يندب ماضيها الداثر، وعزها الغابر، كما يتوجع لما تقاسيه من خيبة الآمال في عصرها الحاضر، ويهيب بأبنائها ألا يقعدوا عن ضيم، ولا يستنيموا لمكروه. وكذلك فعل الأستاذ الزهاوي؛ فإنك إذ تصفحت شعره وجدت أنه يريد أن يدفع بالأمة إلى كل جديد، ويريد منها أن تسلك إلى الحضارة كل طريق.
Shafi da ba'a sani ba