الإغراق في المديح والفخر والإمعان بالكذب فيهما، وكان الذين يولعون بهذا الضرب من الشعر يقولون: «الشعر أعذبه أكذبه.» وهي فرية تقض مضجع الصدق.
ومن هنا قسم أهل البديع الخروج على المألوف إلى أقسام عديدة؛ أولها: المبالغة، وأرادوا بها ادعاء ما يمكن عقلا وعادة، وإن كان خارجا عن المألوف. وثانيها: الإغراق، وهو ادعاء ما يمكن عقلا لا عادة. وثالثها: الغلو، وهو ادعاء ما لا يمكن عقلا ولا عادة. وهذا التقسيم يشعرك بما انتهوا إليه من الخروج عن الممكنات إلى المستحيلات. (5)
الاندفاع في وصف الخمر والدعوة إلى شربها، والتبسط في وصف السكر والسكارى والمنادمة والندامى، والذهاب في ذلك كل مذهب. ورأس هذه الفئة أبو نواس؛ فقد أتى في هذا الباب بما لم يسبق إليه ولم يلحق فيه. نعم؛ كان بعض شعراء الجاهلية كالأعشى يلمون بهذا الباب إلماما خفيفا، وبعد الإسلام لم يجرؤ على طرق هذا الباب إلا قليل من الشعراء؛ كأبي محجن الثقفي والأخطل وأبي الهندي. أما في هذا العصر فقد جعله الشعراء ديدنهم، وقصروا عليه جل اهتمامهم، والذي ترفع منهم عن احتساء الشمول لم يترفع عن وصف شمائلها، ومن أراد التبسط في هذا الباب فعليه أن يرجع إلى حلبة الكميت للنواجي المتوفى سنة 859.
على أن عشاق الفضيلة وأهل التقوى لم يعدموا من يطربهم ويجتذبهم إليه بشعره ويسترق قلوبهم ببارع سحره، فقد فتح فريق من شعراء بغداد باب الزهد والوعظ والإرشاد وتفننوا فيه، وتطرقوا إلى ترصيعه بالحكم والأمثال، وعلى رأس هذه الفئة أبو العتاهية وأبان بن عبد الحميد اللاحقي، وتبعهما الكثيرون من الشعراء، حتى إن الحسن بن هانئ المعروف بنزعته لم يخل شعره من نفحات زهدية وعظات صوفية؛ كقوله:
ما بال دينك ترضى أن تدنسه
وثوبك الدهر مغسول من الدنس؟!
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها
إن السفينة لا تجري على اليبس !
وكثيرا ما اقتبس الصوفية شعر المجان من الشعراء وحوروا معناه إلى أغراضهم النبيلة؛ فهذا ماجن يشبب بغلام يقول:
إن بيتا أنت ساكنه
Shafi da ba'a sani ba