وكانت أم تلك الفتاة تقول لها إذ ذاك: إن فؤادا كان ينظر إليك وأنت ترقصين؟
فصبغ احمرار الخجل وجه الفتاة وأطرقت في الأرض من كلام والدتها. وبالحقيقة إن فؤادا كان ينظر إليها دائما، ولكن السبب هو أنها كانت تشبه بديعة؛ فهو كان ينظر إلى صورة بديعة وليس إليها.
ولم تحب والدة الفتاة قطع الحديث عند هذا الحد فقالت: إن الغني أول ما ينظر إلى الجمال؛ لأن لديه المال الكثير والجاه العريض وكل ما يشتري المال له. وعنده الخدم تطبخ وتربي الأولاد وتعتني بتدبير المنزل، والذي ينقصه هو شمس تضيء في منزله، وتنير فضاء بيته، وتكون بهجة عينه. وكم أنا سعيدة؛ لأنك أبهى وأنور من الشمس يا عزيزتي مرتا ... ماذا تهم الدوطة عند الجمال ؟!
فضحكت مرتا - في عبها - من كلام والدتها، ورفعت نظرت إلى فؤاد، وصادف أن هذا الشاب كان ينظر إليها الآن ويفتكر في بديعة، فاحمر وجهها وامتلأ قلبها سرورا ...
ولكن - وا أسفاه - أن جسم فؤاد كان في تلك القاعة حقيقة، ولكن فكره وقلبه كانا بعيدين ألوف الأميال عنها.
ولم يصدق فؤاد أن انقضت تلك الليلة؛ لأن الأنوار المضيئة ما كانت إلا لتزيد ظلمة قلبه ظلاما، وألحان الموسيقى وأصوات المدعوين ما كانت إلا لتزيد شجونه وتذكره بأنه قد خسر ما هو ألذ وأشهى إلى قلبه من كل هذه الأمور، وأنه حزين لأجلهم وهم فرحون. ومن الطبع أن حزين النفس لا تسره الأفراح؛ لأنها تزيد في حزنه وتؤلمه بتذكاراتها، وأما ما يسره فهو الجلوس مع من هم مصابون بمصابه يبادلهم الشكوى ويحسبهم رفاقه ويمزج دموعه بدموعهم فيغسل بها صدأ الأحزان عن قلبه، وكل يميل إلى جنسه؛ ولذلك لم يصدق أن انتهت تلك الحفلة التي كان كل من فيها - حتى والديه العزيزين - غير محبوب إليه.
ولما ذهب إلى غرفته جلس على كرسي ليستريح من العناء والأفكار بعد أن أوصد الباب، وكان جلوسه بجانب النافذة فأطل رأسه منها قليلا يتنشق النسيم العليل بكثرة عله ينتعش، ولما فعل رأى القمر مضيئا أمامه فنظر إليه متنهدا وحسده على ضيائه؛ إذ تذكر بأنه في مثل تلك الأيام من السنة الماضية كان قلبه منارا بما هو أبهى من نوره.
وبينما هو سابح في فضاء الأفكار، وسائر بنظره مع القمر، سمع طرقا خفيفا على باب غرفته، فنهض متعجبا من هذا الأمر، وفتح الباب، وإذا بخادمهم الأمين يوسف يقول: هل كنت نائما يا سيدي؟ قال فؤاد: كلا، فلماذا سؤالك؟ قال: لأنني واقف منذ دقائق على هذا الباب أطرقه ولم يجبني أحد.
فابتسم فؤاد وقال: إنني لم أكن نائما يا يوسف فما هو غرضك؟ فتناول الخادم من جيبه كتابا ونظر يمينا وشمالا ليرى إن كان أحد ينظر إليه، ثم ناوله إياه وقال بصوت منخفض: أتت اليوم فتاة وأعطتني هذا الكتاب، واستحلفتني بشرف أسيادي أن أسلمك إياه في هذه الليلة.
فأخذ فؤاد المكتوب منه، ولما قرأ العنوان كاد يرميه من يده المرتجفة، لكنه تجلد أمام الخادم، وصرفه عنه بعد أن شكره ورجع فأوصد الباب ثانية وذهب إلى كرسيه.
Shafi da ba'a sani ba