فسكتت عندما سمعت هذا الكلام، وفطنت لاجتهاد نسيب في الأمر وأن حبه الزائد لفؤاد لم يكن حبا مجردا، فلامت نفسها كيف أنها لم تترو أكثر، وكتمت عن زوجها خبر إعطاء المال لنسيب وكانت لم تخبره به بعد، وقد قصدت أن تخبره في ذلك الوقت لولا كلامه.
وبعد دموع غزيرة وتوسلات كثيرة استرضت مريم زوجها؛ إذ لا قوة على الأرض تقف في وجه غاية المرأة متى كان سلاحها خضوعها ودموعها، ولما وثقت من صفح زوجها ورضاه قالت له: من الضروري أن نزور فؤادا في المدرسة ونخبره بالمسألة.
فقال: إن هذا الخبر يكسر قلب الغلام، ولا أعلم بأية واسطة تقدرين على إبلاغه إياه.
فابتسمت إذ ذاك ابتسامة الظافر وقالت: أرجو أن تترك الأمر لي يا حبيبي حتى يكون انتهاء المسألة كابتدائها على يدي.
فقال هو مبتسما أيضا: أحب أن تخبريني كيف تقابلين الشاب، وما الذي تقولينه له، وهل تنوين قول الحقيقة أم ترومين خداعه هذه المرة أيضا.
فاصفر وجه مريم إذ رأت زوجها قد رجع «إلى الجد» في كلامه وقالت له بحزن: إن الصدق لا يجدي نفعا الآن؛ لأن ما فات مات، وأما إظهار الحقيقة لفؤاد فإنه يزيد في أشجانه وأشواقه إلى الفتاة وهي بعيدة، ويحدث في قلبه النفور مني وأصبح محتقرة عنده، ولا أظنك يا منصور بهذا المقدار قاسيا حتى تظهر مكري وخداعي لولدي الوحيد فيبغضني.
فقال زوجها بحنو وقد رق لكلامها: إنني لا أريد هذا قط، كما لا أريد أن أرى زوجتي المحبوبة الفاضلة موصومة بوصمة الخيانة والمكر، ومكتوبة على وجهها الجميل آيات الغدر.
فلما سمعت كلامه الصادق صاحت قائلة: كفى، كفى يا منصور! فإنني مذنبة ومن أقر بذنبه فلا ذنب عليه، ولو كنت أرى بالإقرار مغنما لكنت أقر، لكن الأمر قد صار ماضيا الآن، وأنا فعلت ما فعلت ليس لأجل نفسي بل لأجل من يفدى بالنفس - لأجل ولدي - والوالدة المحبة تشتهي كل شيء وعمل في سبيل سعادة ولدها، أنا ضحيت شرفي وذمتي لأجل ولدي، ويجب أن أكمل الضحية الآن وأموت. أنا قد بليت يا منصور، فإذا لم تساعدني على التخلص من هذه الورطة شريفة محبوبة من ولدي، فيمكنك أن تساعد ولدي علي وتلطخ اسمي بالعار عنده، ولكنني سوف لا أتركك ترى نتيجة عملك هذا؛ لأني أنتحر وأتركك ورائي خائنا قاتلا! ثم انطرحت على الأرض تبكي بكاء مرا.
أما هو فقام عن كرسيه يتمشى في الغرفة ذهابا وإيابا وهو مبلبل الأفكار، لا يريد أن يسلم مع امرأته بأمر يحسب قلة دين وعارا وكذبا، ولا يريد أن يرى امرأته محتقرة مبغوضة من ولدها كما قالت، وهو يخاف من أكثر من ذلك من أن تتمم وعيدها فعلا وتقتل نفسها؛ لأنها كانت ذات كبرياء شديدة تستهون كل شيء عند جرح كبريائها. وبعد أن تمشى نحوا من نصف ساعة وهو يطلب من الله المساعدة، خطر له أن يجاري امرأته على أفكارها ولا يخبر فؤادا بشيء، حتى إذا رجع من المدرسة يسفره إلى أمريكا ليجتمع ببديعة، وبهذا يكون قد قضى الواجبين بوقت واحد. ورجع إلى زوجته فأنهضها عن الأرض ومسح دموعها وطيب خاطرها، ولكنه نسي أن يسألها عن فحوى الكلام الذي ستقوله لفؤاد.
الفصل الثالث والعشرون
Shafi da ba'a sani ba