فقال فؤاد وقد استبشر من جوابها خيرا: إنني أعشق جرأتك الأدبية يا بديعة؛ لأننا نحن الرجال نعتبر ما لنا بغيرنا إذا لم نكن نظن أن ذلك الغير قادر عليه مثلنا، ولكن ألم ينبئك قلبك بما سأقوله لك؟ فقد كنت أظن أن اللبيب من الإشارة يفهم. - إن الفهم من الإشارة شأن اللبيب يا سيدي، أما أنا فلست لبيبة ولا قلبي ينبئني بشيء، وهب أنه فعل فليس من الممكن أن يكون صدى أفكاري؛ لأن القلوب تختلف بأميالها وشواعرها. - إذن لقد كذبت الأمثال القائلة: «من القلب إلى القلب دليل.»
إذ ذاك سكتت بديعة؛ لأنها لم تقدر أن تكذب، أما فؤاد فإنه بقي صامتا ينتظر جوابها، فلما لحظ بأن لا جواب على كلامه خطا نحوها بضع خطوات وقال لها بصوت متهدج: أيمكنك التصديق بشرفي والوثوق بصدقي يا بديعة؟
فنظرت إليه الآن وقالت بجرأة: لا يمكنني الجزم بهذين الأمرين؛ لأنني لم أختبرهما فيك، ولكن يمكنني القول بأني أظنهما فيك إذا اقتفيت أثر والديك الكريمين.
فنظر إليها الشاب بإعجاب وقال: سواء كنت تقصدين أم لا، فإنك بكل كلمة تكبلينني بقيود الإعجاب بك والهيام بأخلاقك، فلله درك ودر صديقك يا بديعة الشريفة، فاعلمي يا عزيزتي بأنني سوف أجعلك على يقين من شرفي وصدقي متى قلت لك الآن بأن حبي لك عظيم وبأنني أتوسل إليك بأن لا ترفضي تضرعاتي الحارة وآمالي العظيمة بالاقتران بك، فتعلمي في الاستقبال إن كنت شريفا وصادقا أم لا.
ولزيادة دهشته نظرت إليه بديعة بكل رزانة مقابلة اضطرابه بهدوء وعدم اكتراث، ليس لأنها كانت أقوى منه أو لأنها لم تحبه، كلا، فقد كانت دونه في الأمرين، بل لأنها كانت تنظر إلى الأمر بغير العين التي كان ينظر بها هو. هي كانت تحسبه «ضد الواجب»، وهو كان يحسب حبها «واجبا»، وهذا ما جعلها تقابله بغير حفول رغما عنها وتقول له بهدوء: إن طلبك يا سيدي شرف أكبر لهذه الفتاة الخاملة؛ ولذلك لا أقدر على إجابته لأن الأمر فوق طاقتي. - فوق طاقتك! إذن أنت مقيدة. - نعم بواجب الأمانة نحو البيت الذي أنا فيه، وله فضل علي ونحو الشخصين الكريمين اللذين أدعوهما سيدي واللذين لا أخونهما، وأكسر قلبيهما ولو اضطررت أن أموت. - هل هذا هو المانع الوحيد الذي يمنعك عن إجابة طلبي؟ وهل ليس من موانع أخرى سواه؟ - نعم إن هناك مانعا آخر وهو عدم المناسبة، ووجود التفاوت بيننا كما سبقت وقلت. فقال فؤاد بابتسام: أما المانع الأول فسهل زواله؛ لأن والدي يحبانني، ومتى عرفا أن سعادتي الوحيدة هي أنت فلا يحرمانني منك، ولا سيما بعد أن يتحققا بأن العناد لا يجدي نفعا وأن الرضا أوفق في أمر لا بد منه. أما الثاني فلا أراه يستحق الجواب عنه، إذن لقد زال المانعان، وليس هذا ما يهمني، بل كل همي هو أن أعرف ما إذا كنت تحبينني، وعما إذا كنت غير مقيدة بعهد ما مع أحد، فهل لك أن تزيلي هذين المانعين من جهتك كما أزلت أنا ذينك من جهتي؟
وكان يتكلم والصدق والجد ظاهران في عينيه، ولهما نغمة في صوته اهتزت لها أوتار قلب بديعة التي خافت من لهجته أكثر مما خافت من أمر آخر، ولم يعد لها هم بغير التخلص منه، ولو مهما كلفها الأمر. وفيما هي مفكرة في ماذا تجيبه سمعت صوت عربة آتية نحو البيت، فقالت لفؤاد بلهفة: إنني أسمع خرير دواليب العربة فأظنهم قد أتوا، فأرجوك أن لا تدع والدتك تعرف بشيء إلى الغد.
فقال فؤاد: لا أقدر أن أعدك قبل أن أسمع جوابك. فقالت: ستسمعه في الغد، فأتوسل إليك أن لا تطلع والدتك على شيء، وهذا هو أول الأوقات التي أقدر بها على اختبار «صدقك وشرفك»، عدني ...
فابتسم فؤاد؛ لأنه لم يكن يحسب رضا بديعة صعبا، وقال لها: لك ما تريدين، ولكن لا تنسي بأنني اعتدت أن آخذ أثمان أعمالي غالية، وثمن وعدي الآن سيكون أغلاها منك، فلا تنسي هذا ... قال هذا وبديعة مارة من أمامه مرور العصفور في الهواء، فلم تسمع كل كلامه.
ولم تكد تدخل غرفتها حتى رن في أذنيها صوت سيدتها وهي تقول لفؤاد: ما الذي رجع بك بهذه السرعة يا فؤاد؟!
وقبل أن يجيب فؤاد على كلام والدته سمعت صوتا آخر يقول: أرجعه شوقه إلينا! فتأثرت بديعة من هذه الكلمات لأنها خرجت من فم نسيب، واضطرب قلبها من هذا الشاب الذي لم تحب أن تنظر إليه أو تكلمه من حين رأته لسبب لا تعلمه، وظلت واقفة وقلبها يخفق وهي منتظرة لترى جواب فؤاد الذي قال: إني لم أجد صديقي، ففضلت الرجوع على انتظاره.
Shafi da ba'a sani ba