وكانت هؤلاء الفتيات ماشيات وجرارهن على أكتافهن فارغات لا يعيقهن شيء عن التقدم بخفة ورشاقة في ذلك السهل الواسع قبل مشارفة الوادي، وكانت الواحدة منهن تثب ضاحكة فتتبعها الأخرى هائلة مازحة اندفاعا بقوة الشباب وثمولا من خمرة الصبا، وما ترى كان ليزعجهن في تلك الساعة وفي ذلك المكان والعمر! أما إن أيام الصبا تساعد على السعادة الحقيقية؛ إذ تفتح العين على هناء الحياة وتغمضها عن شقائها، إلى أن يمر طور «البساطة الطبيعية» وتنقضي ليالي الأحلام الذهبية ويأتي زمان الاختبار والجد، فيتنبه الإنسان لما خسره في ذلك الشطر من العمر؛ إذ يرى غيره يسرح ويمرح تحت ظل سماء السعادة التي كانت في تلك الليلة ضاحكة لهؤلاء الفتيات بوجه القمر المنير على ذلك السهل الواسع، وهن يركضن بدون أن يشعرن بتعب من المشي أو يكترثن للأحمال الثقيلة التي كانت من نصيب أكتافهن عند الرجوع. ولم يكن ينقص تلك الليلة القمراء وذلك المنظر الطبيعي الجميل اللذين يشابهان بياض وجمال قلوبهن الطاهر، وذلك النسيم العليل البليل الذي كان يزيد وجوههن بهاء ورواء، وأنفاسهن طيبا وحلاوة، وأصواتهن نعومة ورخامة، غير مصور يشعر بجمال ذلك المنظر وقوته، فيرسم الطبيعة وبناتها الطبيعيات الطاهرات بشكل بقعة جميلة من الأرض مصونة بحائط نبت فيها الكثير من الزنابق النضرة الجميلة المنظر الزكية الرائحة والمحتاجة إلى الري مع تدفق المياه العذبة من حولها. بقعة جميلة هي لبنان العزيز وزنابق نضرة هي نساؤه الجميلات الطاهرات. ولكن وا أسفاه، انظروا إليها كيف هي ذليلة لانحباس قطر التهذيب عنها، فليس لها الرائحة التي كان يجب أن ترافقها، ولماذا؟ ذلك لأن الطبيعة مهما ساعدت على إيجاد المادة فلا بد ليد الصقال من المرور عليها للتحسين ولا سيما في هذه الأيام. نساؤنا جميلات؟ نعم. طاهرات؟ نعم. فاضلات وذكيات؟ نعم، وكأمهن الطبيعة. ولكن ما هو النفع من الآلة إذا كانت بدون يد تديرها وتزيل صدأها؟ وهل تكفي المادة وحدها بدون صقل؟ كلا! لأن الفائدة لا تأتي من صلابة فولاذ تلك الآلة ولا من جمال منظرها أو إتقان صنعتها، بل من العمل الذي تقوم به متى أدبرت. وأما إذا تعطلت فكل جمال فيها لا يفيد شيئا إلا التحسر، على أن لا تكون في حالتها اللائقة بها لتفيد. فجمال الوجه ونضارته وصحة الجسم وغضارته، أمور حسنة للمرأة، ولكنها لا تبني البيت؛ لأن من وراء الوجه الجميل والجسم الحسن التركيب معملا للفضيلة والفائدة البيتية والاجتماعية، وما دواليب ذلك المعمل وآلاته غير التهذيب والعلوم التي مع ظهور نفعها ومع محبة اللبنانيين لها والشعور بوجوبها للصبي، ينكرونها على البنت ويساعدون بذلك على قتل نصف المنفعة المتأتية للهيئة الاجتماعية من النساء لو كن متعلمات ومتهذبات حقيقة؛ فالزنابق لا تعيش بدون ماء، وقليلا ما يوجد الماء لزنابق لبنان الجميلة، وإذا وجد فهو غير كاف، فكيف تدعي إذن بأن زنابق الغرب أزكى رائحة وأجمل منظرا من زنابقنا التي كان يجب أن تكون أبهى وأبهج؟ لأنها تنبت في أرض طيبة تساعدها على ذلك، ونحن نمنع الماء عن تلك الزنابق فتجف وتذوي ثم تيبس من التهامل.
فتيات جميلات الوجوه، ولكن ينقصهن ما يجعل لذلك الحال رونقا ليضيء من وراء تلك الوجوه الوسيمة، ويظهر واضحا كأحرف مكتوبة على زجاجة حمراء في ليل أليل، لا تقرأ ما لم يوضع وراءها ضوء فتظهر بأجمل مظاهرها. صحيحات الأجسام، ولكن ينقصهن معرفة كيف تظهر هذه الصحة وكيف تكسى تلك الأجسام الجميلة بملابس مرتبة جميلة مثلها. رشيقات القدود، ولكن تلك القدود ينقصها هندام وعياقة. وكأن وجود «بديعة ولوسيا» تينك الفتاتين المهذبتين بين رفيقاتهما مما يصح به قول القائل: «والضد يظهر حسنه الضد.» وكأنهما كانتا كقطعتي قماش أخذتا من شقة واحدة فخيطتا وخرجتا وزخرفتا، وبإضافة صنعة يد الإنسان إلى يد الله فيهما صار الناظر إليهما يظنهما من غير ذلك القماش وهما منه. هكذا كانت «بديعة ولوسيا» اللتان أظهرتا للناظر جمالا مزدوجا أو جمالا تاما، وهو جمال النفس والجسد. ذلك لأنهما كانتا متهذبتين ومتعلمتين، وهذا ما جعلهن كغادتين باريسيتين قد اختلطتا بأولئك الفتيات الباقيات، ولو مر بهما رجل متهذب في ذلك الوقت لسأل نفسه متعجبا: هل هاتان الفتاتان لا تزالان عزبتين بهذا العمر وهذا الجمال والتهذيب؟! فيجيبه صوت من وراء هاتين النفسين الشريفتين متنهدا: «نعم.» نعم لا تزالان عزبتين؛ لأنه ما ترى يكون نصيب فقيرتين يتيمتين في العالم قد تربتا بالعازارية، وهذه الأيام أيام «دوطة» ووجاهة ومال، لا أيام تهذيب وأهلية.
ولما انتهت الفتيات من الوثوب والركض في ذلك السهل وأقبلن على شفا الوادي، انحدرن إلى العين أو بالحري هبطن هبوط الملائكة وأجنحتهن السعادة الحقيقية والقلوب الطاهرة النقية، فملأن جرارهن وجلسن للاستراحة قليلا يتجاذبن أطراف الأحاديث تحت سماء الله الصافية كقلوبهن، حيث الطبيعة جميلة ورءوفة ولا رقيب أو عذول، وما عسى أن تكون تلك الأحاديث سوى نتائج أفكارهن وقلوبهن الطاهرة؟ وكانت أول متكلمة منهن لوسيا، فقالت: ما أجمل هذه الليلة التي ستكون آخر ليلة نقضيها في الوطن يا بديعة!
فلم تجبها بديعة بل أجابت فتاة أخرى قائلة: أفلا تذكريننا وتذكرينها يا لوسيا متى وصلت إلى العشق، وهي آخر ليلة قضيناها سوية على هذه العين؟
فصعدت إذ ذاك زفرة من صدر لوسيا وقالت: كيف لا وأنا مع سروري بالسفر أشعر بأسف على فراقكن وفراق هذه العين المحبوبة؟ فجاوبها باقي الفتيات بزفرات حرى أيضا، وقالت واحدة منهن: هل أنت سعيدة بالسفر يا ابنة عمتي؟ أجابت لوسيا: سعادتي لا مزيد عليها.
وكانت الفتاة الثانية رفيقة لوسيا متكئة على حجر بعيدة عن سائر الفتيات مقدار خمس أقدام، وهي مصغية إلى نقيق الضفادع وناظرة إلى الوادي أمامها، وكأنها غير موجودة إلا بالجسد بينهن؛ لأن فكرها كان بعيدا ولم تفهم من كلامهن كلمة حتى، ولم تشعر أنهن بجانبها ولم تنتبه إلا ليد ألقيت على كتفها بلطف وصوت رقيق يكلمها قائلا: وهل أنت مسرورة أيضا يا بديعة؟
فبغتت الفتاة من هذا الصوت ونظرت إلى صاحبته بلهفة قائلة: «مسرورة من ماذا؟!»
فقالت الفتاة ولم تلحظ تشتت أفكارها، إما لأنها لم تكن دخلت بعد هذا الطور، وإما لأنها غير ذات ذوق لطيف وذكاء غريب تقدر على قراءة أفكار الإنسان من منظره: مسرورة من سفرك إلى أمريكا؟
فتنهدت إذ ذاك بديعة وقالت: إن السرور يتأتى من الشيء الذي يفعله الإنسان برغبة وحب وليس باضطرار وضغط ...
فأصاب سهم كلامها هذا كبد لوسيا وقالت بنزق: ومن ذا الذي اضطرك إلى السفر ضد إرادتك يا بديعة؟!
Shafi da ba'a sani ba