ولقد يكفي أن يكون في الجريدة مقالتان واحدة عن السياسة المحلية وأخرى عن السياسة الخارجية، ثم ينصرف المحررون والمترجمون إلى إمتاع القارئ بما جد في عالم الأدب والتاريخ والاقتصاد، وما إلى ذلك من الأبحاث الشيقة الممتعة التي تثقف العقول وتخلق الرجال.
ألم يمر بك أيها القارئ ذلك الخبر الذي نشرته الجرائد المحلية بلا تعليق؟ ألم تسمع أن فتى في شارع الدواوين أضرم النار في فتاة فصيرها هباء تذروه الرياح؛ لأنه حاول أن يسلبها شرفها وعفافها فأبت، وفضلت النار على العار.
في سطرين اثنين كتب هذا الخبر في الجرائد المصرية: أتدري لم ضاقت هذه الصحف المشئومة عن الاستفادة من هذا الحادث، والإفاضة بسببه في الآداب والأخلاق؟ لأن كتابها - هداهم الله - كانوا مشغولين بذكر الأسباب القريبة والبعيدة لمصرع ويلسون في لندره وراتنوا في برلين.
إنها لأعجوبة القرن العشرين أن نغفل عما يجري على مرأى منا من غريب الحوادث، لنفرغ لتحقيق ما لا يعنينا من أخبار العالمين.
أين المصلحون؟
قضي الأمر، وتبينا أن الغواة في هذا البلد قويو الإرادة، صادقو العزيمة، يوفون لأنفسهم بالعهد إن عاهدوها على الشر، ولجيوبهم بالوعد إن وعدوها سلب ما في أيدي الناس. وهذا ظاهر في كل ما وصلت إليه أعمال العادين على الأمن، فليس من سبيل إلى إنكار البراعة التي ظهرت في طائفة من هذه الأمة المسكينة، تلك الطائفة التي تسمى حينا بالنهابين وحينا بالسفاحين.
وإنا إذا أسفنا لشيء فسيكون أسفنا أشد كلما رأينا أن ضعف الإرادة، وخور العزيمة، وفتور الهمة؛ إنما هي من صفات طلاب الإصلاح في مصر، فإذا أتم السارق ما اعتزم المضي فيه، ووصل السفاك إلى إزهاق ما يشاء من الأرواح؛ فإنك ترى الإخفاق لاحقا بمن يعزم على تأسيس ملجأ، أو تأسيس مدرسة، أو تأليف كتاب، أو قتل رذيلة، أو غرس فضيلة.
لقد كان من الهين أن نحتمل وجود خونة ولصوص وفتاكين، لو أن لدينا - بجانب ذلك - زعماء في الإصلاح، وعلماء في الأخلاق، وبناة للمجد، ودعاة إلى الرشد، ولكن كفة الرذيلة أرجح من كفة الفضيلة، وطالب الشر أسرع من خاطب الخير، وداعي الهدى أعجز من داعي الضلال.
هذا هم نقاسي احتماله، ونشهد بأنفسنا مصرع الأخلاق، ونرى ظهور النحل الدنسة التي ترمي إلى انحلال العزائم، وانهزام النفوس، واندحار العقول. ولا يعلم إلا الله مآل هذه الأمة التي بدأت تتهاون في الشرف الذي لا تحيا أمة إلا به، والدين الذي كان السبب في كل ما لها من كيان.
ولولا أننا نكتب في الأخلاق وقد ينافيها التعرض ولو قليلا للشخصيات؛ لكشفنا الغطاء عن الأفراد والجماعات التي لا تعد الثبات على المبدأ إلا بقية من بقايا الجهالة، وترى الفضل في أن يكون المرء كالحرباء، يتلون بلون المكان الذي يحل فيه، فهو تارة نقي الوجه، وأخرى مسود الجبين.
Shafi da ba'a sani ba