أقول في الشرق موكبان: موكب من عجائز محدودبي الظهور يسيرون متوكئين على العصي العوجاء، ويلهثون منهوكين مع أنهم ينحدرون من الأعالي إلى المنخفضات، وموكب من فتيان يتراكضون كأن في أرجلهم أجنحة، ويهللون كأن في حناجرهم أوتارا، وينتهبون العقبات كأن في جبهات الجبال قوة تجذبهم وسحرا يختلب ألبابهم.
فمن أية فئة أنت أيها الشرقي وفي أي موكب تسير؟
ألا فاسأل نفسك، استجوبها في سكينة الليل وقد صحت من مخدرات محيطها، عما إذا كنت من عبيد الأمس أم من أحرار الغد؟
أقول لك: إن أبناء الأمس يمشون في جنازة العهد الذي أوجدهم وأوجدوه. أقول: إنهم يشدون بحبل أوهت الأيام خيوطه، فإذا ما انقطع - وعما قريب ينقطع - هبط من تعلق به إلى حفرة النسيان. أقول : إنهم يسكنون منازل متداعية الأركان، فإذا ما هبت العاصفة - وهي على وشك الهبوب - انهدمت تلك المنازل على رؤوسهم وكانت لهم قبورا. أقول: إن أفكارهم وأقوالهم ومنازعهم وتصانيفهم ودواوينهم وكل مآتيهم ليست سوى قيود تجرهم بثقلها ولا يستطيعون جرها لضعفهم.
أما أبناء الغد فهم الذين نادتهم الحياة فاتبعوها بأقدام ثابتة ورؤوس مرفوعة. هم فجر عهد جديد، فلا الدخان يحجب أنوارهم، ولا قلقلة السلاسل تغمر أصواتهم، ولا نتن المستنقعات يتغلب على طيبهم. هم طائفة قليلة العدد بين طوائف كثر عددها. ولكن، في الغصن المزهر ما ليس غابة يابسة، وفي حبة القمح ما ليس في رابية من التبن، هم فئة مجهولة لكنهم يعرفون بعضهم بعضا، ومثل قمم عالية يرى واحدهم الآخر ويسمع نداءه ويناجيه. أما المغاور فعمياء لا ترى، وطرشاء لا تسمع. هم النواة التي طرحها الله في حقلة ما، فشقت قشرتها بعزم لبابها، وتمايلت نصبة غضة أمام وجه الشمس، وسوف تنمو شجرة عظمى تمتد عروقها إلى قلب الأرض وتتصاعد فروعها إلى أعماق الفضاء.
الوحدة والانفراد
الحياة جزيرة في بحر من الوحدة والانفراد.
الحياة جزيرة صخورها الأماني، وأشجارها الأحلام، وأزهارها الوحشة، وينابيعها التعطش، وهي في وسط بحر من الوحدة والانفراد.
حياتك، يا أخي، جزيرة منفصلة عن جميع الجزور والأقاليم، ومهما سيرت من المراكب والزوارق إلى الشواطئ الأخرى، ومهما بلغ شواطئك من الأساطيل والعمارات فأنت أنت الجزيرة المنفردة بآلامها، المستوحدة بأفراحها، البعيدة بحنينها، المجهولة بأسرارها وخفاياها.
رأيتك، يا أخي، جالسا على رابية من الذهب وأنت فرح بثروتك، متفوق بغناك، شاعر أن في كل حفنة من التبر سلكا خفيا يصل فكرة الناس بفكرتك ويربط ميولهم بميولك. ومثل فاتح كبير أبصرتك تقود فيالق جنود الظفر إلى المعاقل الحصينة فتدكها، وإلى المستحكمات المنيعة فتمتلكها. ولكنني نظرت إليك ثانية فرأيت وراء جدران خزائنك قلبا يختلج في وحدته وانفراده اختلاج ظامئ في قفص مصنوع من الذهب والجواهر ولكنه خال من الماء.
Shafi da ba'a sani ba