فلما نزلت من السفينة إلى الزورق سألني النوتي قائلا: إلى أين يريد سيدي أن يذهب؟
فلما ذكرت اسم محافظ المدينة نظر إلي باهتمام واحترام وأخذ يضرب الماء بمقذافه.
سار بي الزورق وكان قد جاء الليل وألقى رداءه على المدينة، فظهرت الأنوار في نوافذ القصور والمعابد والمعاهد فانعكست أشعتها في الماء متلألئة مرتعشة، فبانت البندقية كحلم شاعر يفتنه الغريب من المشاهد والوهمي من الأماكن. ولم يبلغ بي الزورق إلى منعطف أول ترعة حتى سمعت رنين أجراس لا عداد لها تملأ الفضاء بأنات محزنة متقطعة مخيفة. ومع أنني كنت في غيبوبة نفسية تفصلني عن كل المظاهر الخارجية، فقد كانت تلك الطنات النحاسية تخترق لوح صدري كالمسامير.
ووقف الزورق بجانب سلم حجري تتصاعد درجاته من الماء إلى الرصيف، فالتفت البحري إلي وأشار بيده نحو قصر قائم في وسط حديقة وقال: هذا هو المكان. فصعدت من الزورق وسرت مبطئا نحو المنزل والبحري يتبعني حاملا حقيبتي على كتفه، حتى إذا ما بلغت باب المنزل ناولته أجرته وصرفته، ثم طرقت الباب ففتح لي، وإذا أنا أمام رهط من الخدم مطأطئي الرؤوس وهم يبكون وينوحون ويتأوهون بأصوات منخفضة، فاستغربت هذا المشهد واحترت بأمري.
وبعد هنيهة تقدم مني خادم كهل ونظر إلي من وراء أجفان مقروحة وسألني متنهدا: ماذا يريد سيدي؟ فقلت: أليس هذا منزل محافظ المدينة؟ فحنى رأسه إيجابا.
فأخرجت، إذ ذاك الرسالة التي أصحبني بها حاكم لبنان وناولته إياها، فنظر في عنوانها صامتا ثم راح متماهلا نحو باب في مؤخر ذلك الدهليز.
جرى كل ذلك وأنا بدون فكر ولا إرادة. ثم دنوت من خادمة صبية وسألتها عن سبب حزنهم ونواحهم فأجابت متوجعة: عجبا، ألم تسمع أن ابنة المحافظ قد ماتت اليوم؟
ولم تزد على هذه الكلمات، بل غمرت وجهها بكفها واستسلمت إلى البكاء.
تأملوا، يا رفاقي، حالة رجل قطع البحار وهو كفكرة سديمية ملتبسة أضاعها جبار من جبابرة الفضاء بين الأمواج المزبدة والضباب الرمادي. صوروا لنفوسكم حالة فتى سار أسبوعين بين عويل اليأس وصراخ اللجة، ولما بلغ نهاية الطريق وجد نفسه واقفا في باب منزل تتمشى في جنباته أشباح التفجع وتملأ قرانيه أنات اللوعة. صوروا لنفوسكم، يا رفاقي، رجلا غريبا يطلب الضيافة في قصر تخيم عليه أجنحة الموت.
وعاد الخادم الذي حمل الرسالة إلى سيده وانحنى قائلا: تفضل يا سيدي فالمحافظ ينتظرك.
Shafi da ba'a sani ba