مَسَحَ بَعْدَ الْمَائِدَةِ» .
وَرُوِيَ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ أَنَّهُ تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَقِيلَ: لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَقِيلَ لَهُ: أَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ؟ فَقَالَ: وَهَلْ أَسْلَمْتُ إلَّا بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ؟ وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قُرِئَتْ بِقِرَاءَتَيْنِ فَنَعْمَلُ بِهِمَا فِي حَالَيْنِ، فَنَقُولُ وَظِيفَتُهُمَا الْغَسْلُ إذَا كَانَتَا بَادِيَتَيْنِ، وَالْمَسْحُ إذَا كَانَتَا مَسْتُورَتَيْنِ بِالْخُفِّ، عَمَلًا بِالْقِرَاءَتَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ مَسَحَ عَلَى خُفِّهِ إنَّهُ مَسَحَ عَلَى رِجْلِهِ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: ضَرَبَ عَلَى رِجْلِهِ، وَإِنْ ضَرَبَ عَلَى خُفِّهِ، وَالرِّوَايَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمْ تَصِحَّ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَلِأَنَّ مَدَارَهُ عَلَى عِكْرِمَةَ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَتْ رِوَايَتُهُ عَطَاءً قَالَ كَذَبَ عِكْرِمَةُ وَرَوَى عَنْهُ عَطَاءٌ، وَالضَّحَّاكُ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خِلَافَ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمْ يَثْبُتْ.
وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُخَالِفُ النَّاسَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَلَمْ يَمُتْ حَتَّى تَابَعَهُمْ.
وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ مَالِكٍ، فَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَسْحَ شُرِعَ تَرَفُّهًا، وَدَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ، فَيَخْتَصُّ شَرْعِيَّتُهُ بِمَكَانِ الْمَشَقَّةِ، وَهُوَ السَّفَرُ.
(وَلَنَا) مَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ، وَهُوَ قَوْلُهُ ﷺ: «يَمْسَحُ الْمُقِيمُ عَلَى الْخُفَّيْنِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا»، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الِاعْتِبَارِ غَيْرُ سَدِيدٍ، لِأَنَّ الْمُقِيمَ يَحْتَاجُ إلَى التَّرَفُّهِ، وَدَفْعِ الْمَشَقَّةِ، إلَّا إنَّ حَاجَةَ الْمُسَافِرِ إلَى ذَلِكَ أَشَدُّ، فَزِيدَتْ مُدَّتُهُ لِزِيَادَةِ التَّرْفِيهِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
[بَيَان مُدَّة الْمَسْح]
مَطْلَبُ بَيَانِ مُدَّةِ الْمَسْحِ
(وَأَمَّا بَيَانُ مُدَّةِ الْمَسْحِ) فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ هَلْ هُوَ مُقَدَّرٌ بِمُدَّةٍ؟ قَالَ عَامَّتُهُمْ: إنَّهُ مُقَدَّرٌ بِمُدَّةٍ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَفِي حَقِّ الْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَيَالِيَهَا.
وَقَالَ مَالِكٌ إنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، وَلَهُ أَنْ يَمْسَحَ كَمْ شَاءَ، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ ﵃ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَسَعْدٍ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ﵃ أَنَّهُ مُؤَقَّتٌ وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَزَيْدٍ بْنِ ثَابِتٍ، وَسَعِيدٍ ﵃ أَنَّهُ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ، وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِمَا رُوِيَ عَنْ «النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ بَلَغَ بِالْمَسْحِ سَبْعًا» .
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ ﵁ سَأَلَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ وَقَدْ قَدِمَ مِنْ الشَّامِ: مَتَى عَهْدُكَ بِالْمَسْحِ؟ قَالَ: سَبْعًا فَقَالَ عُمَرُ: ﵁ أَصَبْتَ السُّنَّةَ (وَبَلَغَ بِالْمَسْحِ سَبْعًا)، فَهُوَ غَرِيبٌ، فَلَا يُتْرَكُ بِهِ الْمَشْهُورُ مَعَ أَنَّ الرِّوَايَةَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا أَنَّهُ بَلَغَ بِالْمَسْحِ ثَلَاثًا، ثُمَّ تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ احْتَاجَ إلَى الْمَسْحِ سَبْعًا فِي مُدَّةِ الْمَسْحِ وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ فَقَدْ رَوَى جَابِرُ الْجُعْفِيُّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: لِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَلِلْمُقِيمِ يَوْمٌ، وَلَيْلَةٌ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْخَبَرِ الْمَشْهُورِ، فَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: " مَتَى عَهْدُكَ بِلُبْسِ الْخُفِّ؟ " ابْتِدَاءَ اللُّبْسِ أَيْ مَتَى عَهْدُكَ بِابْتِدَاءِ اللُّبْسِ؟، وَإِنْ كَانَ تَخَلَّلَ بَيْنَ ذَلِكَ نَزْعُ الْخُفِّ.
ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي اعْتِبَارِ مُدَّةِ الْمَسْحِ أَنَّهُ مِنْ أَيِّ وَقْتٍ يُعْتَبَرُ؟ فَقَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ يُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ، فَيَمْسَحُ مِنْ وَقْتِ الْحَدَثِ إلَى وَقْتِ الْحَدَثِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ اللُّبْسِ، فَيَمْسَحُ مِنْ وَقْتِ اللُّبْسِ إلَى وَقْتِ اللُّبْسِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ الْمَسْحِ، فَيَمْسَحُ مِنْ وَقْتِ الْمَسْحِ إلَى وَقْتِ الْمَسْحِ حَتَّى لَوْ تَوَضَّأَ بَعْدَ مَا انْفَجَرَ الصُّبْحُ، وَلَبِسَ خُفَّيْهِ، وَصَلَّى الْفَجْرَ، ثُمَّ أَحْدَثَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، فَعَلَى قَوْلِ الْعَامَّةِ يَمْسَحُ إلَى مَا بَعْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي إنْ كَانَ مُقِيمًا، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا يَمْسَحُ إلَى مَا بَعْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ وَقْتَ اللُّبْسِ، يَمْسَحُ إلَى مَا بَعْدِ انْفِجَارِ الصُّبْحِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي إنْ كَانَ مُقِيمًا، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا إلَى مَا بَعْدِ انْفِجَارِ الصُّبْحِ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ وَقْتَ الْمَسْحِ يَمْسَحُ إلَى مَا بَعْدِ زَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي إنْ كَانَ مُقِيمًا.
وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا يَمْسَحُ إلَى مَا بَعْدِ زَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ، وَالصَّحِيحُ اعْتِبَارُ وَقْتِ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ؛ لِأَنَّ الْخُفَّ جُعِلَ مَانِعًا مِنْ سِرَايَةِ الْحَدَثِ إلَى الْقَدَمِ، وَمَعْنَى الْمَنْعِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ الْحَدَثِ، فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْ هَذَا الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ ضُرِبَتْ تَوْسِعَةً، وَتَيْسِيرًا لِتَعَذُّرِ نَزْعِ الْخُفَّيْنِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَالْحَاجَةُ إلَى التَّوْسِعَةِ عِنْدَ الْحَدَثِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى النَّزْعِ عِنْدَهُ، وَلَوْ تَوَضَّأَ، وَلَبِسَ خُفَّيْهِ، وَهُوَ مُقِيمٌ ثُمَّ سَافَرَ، فَإِنْ سَافَرَ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ، لَا تَتَحَوَّلُ مُدَّتُهُ إلَى مُدَّةِ مَسْحِ السَّفَرِ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ الْإِقَامَةِ لَمَّا تَمَّتْ سَرَى الْحَدَثُ السَّابِقُ إلَى الْقَدَمَيْنِ، فَلَوْ جَوَّزْنَا الْمَسْحَ صَارَ الْخُفُّ رَافِعًا لِلْحَدَثِ لَا مَانِعًا، وَلَيْسَ هَذَا عَمَلَ الْخُفِّ فِي الشَّرْعِ.
وَإِنْ سَافَرَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَكْمِلَ مُدَّةَ الْإِقَامَةِ، فَإِنْ سَافَرَ قَبْلَ الْحَدَثِ، أَوْ بَعْدَ
1 / 8