قد يقول قائل : إن الفرق بيننا وبينهم ما زال واسعا، وإن ناشري الكتب يجارون في تلك البلاد عقلية آخذة في مدارج الكمال، عقلية تستطيع أن تتذوق هذا النوع الجديد وأن تتفهم ما فيه من فكر ومغزى. ولكنني أقول إن هذه حجة واهية؛ لأن القارئ في بلادنا إذا كان يقرأ القصة لمجرد التسلية فإنه يجد بغيته في النوع القصصي الجديد أيضا، لا سيما إذا كانت القصة مكتوبة بلغة سهلة. فاللوم إذن يقع على الناشرين الذين أحدثوا في أسواق المطابع تلك الفوضى التي يشكو الجميع منها. ولكن لا تنس - أي قارئي العزيز - أن عليك نصيبا من هذا اللوم؛ لأن الناشر والمعرب والمؤلف والطابع كل هؤلاء إنما يأتمرون بأمرك ويتمشون مع رغبتك، فإن أردت أن ترغمهم على تقديم النافع الصالح وعرض الجديد الطيب من مبتكرات القوم فأعرض عما يقدمونه لك من القصص التافهة والروايات الغثة أمثال (وقائع كارتر) و(الحلقات البوليسية) و(مجموعات جونسون) وذيولها ... وروكامبول وأم روكامبول وابن روكامبول ... وما إلى ذلك من القصص التي إثمها أعظم من نفعها.
عاهدني أن تفعل ذلك منذ اليوم وأن تنشر الفكرة بين إخوانك وبني عشيرتك فلا تلبث أن ترى ثمرات هذا العهد بعد زمن قصير.
لقد أطلت عليك الحديث، وخرجت بك عن موضوع المقدمة دون أن أحدثك عن محتويات الكتاب ومزاياه كما هي العادة في المقدمات، ولكن ما لي والتعرض لهذا الأمر؛ فالكتاب بين يديك - وقد نقدت ثمنه بلا ريب - فاقرأه وانقده ووازن بين ما دفعته من ثمن وبين ما استفدته من مطالعته، فإذا وجدت نفسك رابحا فاطلب من المولى أن يعينني على السير في هذا السبيل، أما إن كنت تجده تافها لا يستحق ما بذلته أنا من وقت في التعريب وما صرفته أنت من وقت في القراءة؛ فعاملني إذ ذاك بجميل صنعك، واعلم أن لي من حسن النية خير شفيع، والسلام.
شارع النزهة
20 أكتوبر سنة 1926
ترجمة حياة مؤلف الكتاب
تمهيد
قد يتوالى كر الجديدين، وتمر الأيام والأعوام مر السحاب، طامسة بأقدامها رسوم الأجيال الماضية، والناس على ما هم عليه من فطرتهم الأصلية، مستسلمون لما ورثوه عن آبائهم من التقاليد والعادات مذمومة كانت أم مرضية، فاسدة أم صحيحة، ويظلون كذلك لا يفقهون معنى لما يرونه من المرئيات، ولا يحركون ساكنا لما يمر عليهم من صنوف العظات، إلى أن يمن الله عليهم بمن يميط اللثام عن سر ما جهلوه، ويكشف لهم الستار عن كنه ما لم يتحققوه، فينبههم من رقدتهم، ويرشدهم إلى ما كانوا عنه غافلين.
أولئك هم أقطاب العلم، ورسل التهذيب، ومهبط المدنية، ونور العرفان، بهم تهتدي الأمم، وعلى يدهم يتم صلاح الجماعات ونظام الشعوب، غير أن الدهر - وهو بخيل بأمثال هؤلاء الأقطاب - لا يكاد يجود بفرد منهم على رأس كل جيل حتى تنصب عليه سهام اللعنات من كل صوب، وتتلقاه الناس بالعداوة والبغضاء، والسبب واضح جلي؛ فالناس إذا استسلمت مدة من الزمان إلى بعض العادات الفاسدة، وتوارثت طوال الأجيال العاهات والأمراض النفسية بعضها عن بعض، تصبح بينهم من الصفات اللازمة، ولا ينظرون إليها إذ ذاك كعاهات وأمراض، بل يعتبرونها كخلال طبيعية أنزلها الله على آدم، فإذا ظهر بينهم من هو خال منها غير متحل بما ظنوه ناقصا ناصبوه العداء، ونابذوه الألقاب.
نظرة إلى كل من اشتهر بفضل أو عرف بشيء من النبل نعلم مقدار ما عانى من الدهر، وقاسى من مناوأة الناس في سبيل الحق، فهذه أئمة المسلمين وهداتهم؛ مثل: مالك، والشافعي، وفلاسفة هذه الأمة، ودعاة الصلاح فيها؛ كالمعري وابن رشد وابن تيمية، ومن تقدمهم وجاء بعدهم من فلاسفة اليونان والرومان والفرس وغيرهم من علماء المعقول والمنقول ممن لا تزال أشخاصهم ماثلة في أذهاننا، ولا نزال نستضيء بنبراسهم، قد نغص الدهر عليهم عيشهم، وضيق عليهم مذاهبهم؛ لشذوذهم عن المألوف، وخروجهم عن المعروف، ولم يرجعهم ما هم فيه عن سبيل رأوه هو سبيل الحق، بل ما زالوا في عراك وكفاح حتى لقوا ربهم فرحين بما قضوا من واجب الإرشاد عليهم، غير مكترثين بما لقوا في سبيل الواجب.
Shafi da ba'a sani ba