ومن ذلك الحين أخذ يبحث عن قطعة أرض للشراء ، فأوقعته المقادير في قطعة صالحة أراد صاحبها أن يبيعها عاجلا؛ تخلصا من عسر أحاق به، وكانت الأرض تبلغ مساحتها 1300 فدان، فصلها باهوم بمبلغ 1500 روبل يدفع نصف ثمنها فورا، ويكتب على نفسه وثيقة بالباقي، وقبل أن يتم البيع بأيام مر عليه بعض التجار وطلب منه علفا لفرسه فاحتفى باهوم به ودعاه إلى تناول الشاي معا، وجلسا يتحدثان، فسأله باهوم من أين هو آت، فأخبره أنه آت من أرض بعيدة تابعة لقبائل البشكير؛ حيث اشترى لنفسه هناك ثلاثة عشر ألف فدان من الأرض بمبلغ لا يزيد عن ألف روبل، فدهش باهوم واستزاده الخبر، فقال الرجل: «وما على المرء إلا أن يتودد إلى الرؤساء بهدايا فيمنحونه كل ما يطلب، وقد اشتريت لهم ملبوسا وسجادة وعلبة من الشاي وبعض النبيذ وهدايا أخرى كلفني مجموعها نحو مائة روبل، وبهذه الوسيلة أكرمني الرئيس بأن تنازل عن ثمانية كوبكات في ثمن الفدان الواحد.»
قال ذلك وأخرج صك المبايعة يريه لباهوم وهو يقول: «إن موقع الأرض قريب من النهر، ومما يزيدها أهمية أنها بكر لم تستغل بعد.» فافتتن باهوم بأقوال الرجل ولم يتمالك عن استزادته الحديث والإلحاف عليه بالسؤال، فأجابه الرجل: «إن هؤلاء القوم يملكون من الأرض ما لا يقع تحت حصر ولا عد، وهم على جانب عظيم من السذاجة وبلادة الطبع، ليس للأرض عندهم أدنى قيمة.» فأطبق خاتم الحرص على قلب باهوم وناجى نفسه قائلا: «أنا الآن أملك ألف روبل، فأي شيء يجبرني على شراء قطعة من الأرض مساحتها 1300 فدان، بينما يمكنني شراء عشرة أضعاف هذا المقدار بنفس المبلغ دون أن أثقل كاهلي بالدين؟!» •••
لم يتردد باهوم في الأمر لحظة واحدة، بل ما كاد الرجل يفارق الضيعة حتى كان هو وخادمه على الطريق الموصلة إلى قبائل البشكير؛ ليتحقق الأمر بنفسه، وبعد مسيرة بضع ساعات حط رحاله في إحدى القرى؛ ليشتري صندوقا من الشاي وبعض النبيذ وهدايا أخرى كما أوصاه الرجل، ثم واصل سيره حتى انتهى إلى مكان القبيلة بعد أن قطع مسافة لا تقل عن ثلثمائة ميل ، فوجد الأمر كما وصفه الرجل، ورأى أن القوم يسكنون الخيام بالقرب من مزارع فسيحة يخترقها نهر عظيم، وجل معيشتهم على اللحوم ومستخرجات الألبان، ولا يعنون بزراعة الأرض وغرسها مطلقا، والنساء هن اللواتي يقمن بكل الأعمال، أما الرجال فلا هم لهم إلا الأكل وشرب الشاي والضرب على القيثارة، وكلهم أقوياء البنية صحاح الأجسام، يقضون فصل الصيف باللهو واللعب، ولا يباشرون فيه أي عمل من الأعمال، وهم على درجة عظيمة من السذاجة وبلادة الطبع، ولا يعلمون من الروسية حرفا واحدا، وإنما يتكلمون بلغة خاصة بهم.
ومن عاداتهم الجميلة إكرام وفادة الغريب؛ إذ ما كاد يقع نظرهم على باهوم حتى خرجوا من خيامهم والتفوا حوله صغارا وكبارا يتأملون وجهه، وكان بينهم رجل يتكلم بالروسية، فتوسط بينه وبين قومه وسأله عن قصده، فأخبره باهوم أنه جاء ليصيب عندهم بعض الأرض، ففرحوا بذلك، وأخذوا بيده إلى إحدى الخيام الكبيرة؛ حيث أجلسوه على وسادة وثيرة، وقدموا له أعز ما لديهم من المأكل والمشرب، وبعد الانتهاء من الطعام قام باهوم إلى عربته، وأخرج ما كان لديه من الهدايا، ووزعها عليهم بالتساوي؛ فارتسمت على وجوههم أمارات البشر والسرور، وأخذوا يتكلمون فيما بينهم مدة طويلة، وأخيرا أشركوا الترجمان في الحديث، فالتفت هذا إلى باهوم وقال له: «قد سر القوم من هديتك أيما سرور، ويشكرونك كثيرا على هذا الصنيع، ومن عادتهم إكرام الضيف بكل ما في وسعهم، فاطلب ما تريده منهم لقاء هديتك، فإنهم لا يتأخرون لحظة واحدة عن إسعافك بمرغوبك.» فأجابه باهوم: «جل رغبتي هو أن أصيب عندكم قطعة من الأرض لزرعها واستثمارها؛ لأن الأرض عندكم خصبة للغاية.»
فأخبرهم الترجمان بما يقول، فعادوا إلى حديثهم ثانيا، وكان باهوم يجهل لغة القوم، وإنما رآهم يبتسمون ويضحكون، ثم التفت إليه الترجمان قائلا: «يقولون إنهم سوف يعطونك بكل سرور قدر ما تطلب من الأرض، فما عليك إلا أن تشير بيدك إلى قطعة الأرض التي تريدها لنفسك فتكون لك.»
وما كاد الرجل يتم حديثه حتى قامت ضجة بين القوم، فسأل باهوم عن جلية الأمر، فأخبره الوسيط أن القوم قد انقسموا إلى فريقين: فريق منهم يريد ألا يبت في الأمر حتى يحضر الرئيس، وآخرون يخالفونهم في الرأي. •••
وبينما هم في جلبتهم وضوضائهم؛ إذ برجل ضخم الجثة عريض الأكتاف يلبس قبعة كبيرة من فرو الذئاب قد دخل من باب الخيمة، فوجم القوم وسكتوا كأنما على رءوسهم الطير، وقد قاموا؛ إجلالا لشأن القادم، وإكبارا لأمره، فأخبره الترجمان أن القادم هو رئيس القوم، فقام باهوم مسرعا وأحضر له نصيبه من الهدية وهي خمسة أرطال من الشاي وبعض الثياب النفيسة، فتقبلها الرئيس شاكرا، وجلس في صدر المكان، والتف القوم حوله يحدثونه بشأن باهوم، فأشار إليهم بالسكوت، ثم التفت إليه يخاطبه بالروسية: «أخبرني القوم بشأنك، وما كنت لأرد لك طلبا، فاختر القطعة التي ترضاها لنفسك، فإن لدينا كثيرا من الأرض كما ترى.»
فقال باهوم في نفسه: «كيف أقبل منه ذلك بمجرد القول بلا قيد ولا شرط، ألا يجوز أنهم يندمون في المستقبل فيرجعون ما وهبوه لي من الأرض؟!» ثم خاطب الرئيس قائلا: «أقدم لكم جزيل الشكر على هذا الإكرام، ولكن ألا يجدر بنا أن نستوثق الأمر بحجة أو سند؟ فإن الأعمار بيد الله، والمرء لا يأمل أن يخلد طول الدهر، ألا يجوز أن يأتي بعدكم خلف لا يرضى بعملكم فينازعنا في الأرض؟» فأجابه الرئيس: «إنك محق فيما تقول، وسوف يكون الأمر كما تريد.» فقال باهوم: «بلغني أن أحد التجار اشترى منكم من عهد قريب قطعة من الأرض، وأخذ عليكم عقدا بالبيع، وأنا أحب أن تعاملوني بمثل معاملته.»
فأجابه الرئيس: «حبا وكرامة، عندما يتم الاتفاق نكتب عقدا بذلك، ثم نسجله في محكمة البلدة.»
فسأله باهوم: «وكم يكون الثمن؟» فأجابه الرئيس بقوله: «إن الثمن عندنا محدد لا يتغير، فإننا نأخذ ألف روبل عن اليوم (الكامل).» فلم يفهم باهوم ماذا أراد بقوله: «اليوم الكامل.» فسأله مستفهما: «ماذا تعني باليوم الكامل؟ وكم فدانا يكون؟» فأجاب الرئيس: «نحن لا نستعمل المقاييس في مسح الأرض، وإنما نقدرها بالسير فيها يوما كاملا، وثمن الأرض التي يقطعها المرء مشيا على أقدامه يوما كاملا هو ألف روبل.» ففرح باهوم وصاح قائلا: «ولكنني أقطع في اليوم أرضا كبيرة للغاية.»
Shafi da ba'a sani ba