92

منهم جعفر بن أبي طالب وزوجته أسماء، والمقداد بن الأسود، وعبد الله بن مسعود، إذ ركب بعيرا من بعران ورقة، وعبيد الله بن جحش ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكان عيرا كبيرا لم تسمع قريش بنبئه إلا يوم تعجبت؛ لاختفاء الطلب من بني عبد المطلب على الأسواق، ولكنهم مع ذلك لم يصدقوه.

ولقد كان ورقة يريد أن يصحبهم في تلك السفرة، ولكنه كان يرى أن الرسول أصبح في حاجة إليه، بل وجد أن من واجبه أن يبقى؛ ليكون دريئة له

صلى الله عليه وسلم

من أذى الكفار، ولذلك بقي في مكة شهرا لا يدري كيف باع فيه كل ما جاء به من العقاقير، ولكن الواقع أن الحارث كان قد علم بمقدمه، فأغرى تجار العطارة والعقاقير بمشتراها منه، وكان قصده من ذلك متشعبا: بعضه أن يساعده على الربح من بضاعته، وبعضه أن يضمن له شاريا قبل أن يدخله ولده وسائر قريش فيمن تجب عليهم مقاطعته، وبعضه أن يغريه بالرحلة عن مكة في طلب عقاقير أخرى من اليمن؛ ليصونه من أذى ولده الذي أنذر للات دمه إذا هو رآه مارا بداره، أو سمع أنه اتصل بلمياء أو هرميون أو راسلهما. على أن هناك غرضا آخر وراء ذلك كله: ذلك أن ولده النضر حمله على الرضا بتزويج لمياء من فتى من فتيان بني عبد الدار، وكان الحارث يعلم في قرارة نفسه أن بين ابنته لمياء وورقة محبة شديدة وغراما قويا، ولكنهما لطهرهما ما كانا يفصحان عنه أو يتدانيان بسببه، بل كان ورقة على وجده يعمل عمل الكريم الطاهر النفس على إخماد نيران جواه، وتجنب كل مباح، وكان الحارث بصيرا بالقلوب فرأى من البر بالغلام أن يحمي أذنه أن تسمع خبر زواج لمياء، وقلبه أن يلتهب لانقطاع أمله منها، وإن لم يكن قد استشعر هذا الأمل من قبل.

اجتمع لدى ورقة من المال ما كان كثيرا، فقد أعطته سيدته خديجة ثمن ما حمل إليها وزادته عليه إكراما، وأعطاه المسلمون الراحلون ثمن بعرانه الثلاثة؛ لأنه لم يرض أن يفارق الشملالة ولو على ألف دينار، وتضاعف ما كان قد دفعه ثمنا في العقاقير، وزاد زيادة كبيرة فأصبح يملك نصف ألف من الدنانير لم يدر ماذا يفعل بها؟ فاستودعها أباه، وانصرف يفكر في الرحلة إلى اليمن في طلب العقاقير، ولكنه وجد نفسه كارها لهذه الرحلة؛ لما خطر له من ضرورة البقاء في جوار رسول الله، ولأنه كان يشعر أنه لقربه من حيث تسكن لمياء - كأنه مع لمياء، وكم مرة خطر له أن يمر بدارها؛ ليكون أدنى إليها أو تعسيا أن يراها، ولكنه ذكر أن الحارث على فرط بره، وعلى ما سمع عنه ممن اشتروا منه بضاعته، لم يزره، بل أغراه بالرحيل في طلب عقاقير أخرى فأدرك أنه لا يستطيع أنه لا يستطيع ذلك خوفا عليه من ولده، وأنه لا يحسن به أن يزوره، أو يبدو بجوار داره؛ لئلا يراه ولده أو أحد من أتباع ولده فيكون له منه أذى، وذكر نصيحة الأسقف فاستقر رأيه على البعد عن دار الحارث وقلبه يلتهب شوقا إلى لمياء.

وظل الفتى على حال دبره لنفسه؛ ذلك أنه كان إذا قضى سهرته مع أهله وبلال ومن يزوره من المؤمنين وانصرفوا، نهض هو فتقلد سيفه، واحتمل قوسه وكنانته، والتحف عباءته فوق ذلك، وسار حتى يبلغ شعب بني طالب، حيث يسكن رسول الله منذ قاطعتهم قريش فيجلس بالقرب من عتبة الحصن يحرس الباب، أو يطوف بالحصن خشية أن يعلوه أحد من أشقياء قريش الذين كانوا قد أعلنوا نية قتل الرسول مهما ترتب على ذلك من الأذى، وكان إذا لاح الفجر، وسمع رسول الله ناهضا ليتوضأ يعود هو إلى داره يتوضأ، ويصلي الصبح وينام، وإذا كان رسول الله في سهرة عند أحد من صحابته - رضي الله عنهم - وقف بباب الصحابي حتى يخرج فيسير أمامه حتى يطمئن عليه في داخل داره.

جرى على هذا مدة طويلة لا تفتر له همة، ولا يغض له جفن، ولا يعرف هذا أحد إلا زيد بن حارثة، ولكنه مع ذلك لم يخبر رسول الله إجابة لرجاء ورقة خشية أن يصرفه رسول الله عما يجد فيه نعمة لقلبه بالسهر عليه.

وطال سهر ورقة وزيد يراقبه متعجبا لبره. لقيه ذات يوم في داره فقال: إلى متى يا صاحبي تقضي الليل في العراء؟ إن رسول الله آمن في الحصن لا يمسه أذى. قال اسمع يا زيد إني إن أحببت رسول الله وقمت على حراسته فإنما أحب الله، وأجير الحق والخير الذي أرجوه للناس على لسانه. ما قيمة دنيا لا يكون فيها وما يصلح للناس حياة فيها؟ كل يقوم بواجبه. إنه يدعو إلى الحق، ويحتمل فيه كل أذى، وهو من هو من الناس ومن الله، وأنا أريد أن أقوم بواجبي لله ولدينه ولنبيه وللناس، وتدخل بلال في الأمر هو وباقوم فاستمر ورقة على حاله غير مكلف ولا مسئول.

وحدث ذات ليلة والظلام شديد في العتمة من الليل بينما كان ورقة يطوف بالشعب - أن رأى ثلاثة أشباح تروح وتجيء في الطرقات المؤدية إلى الحصن، فزعمها في أول الأمر أشباح أفراد من بني هاشم يسيرون إلى بيوتهم، ولكنه رآهم يذهبون ثم يعودون، وقد يقفون ليتلفتوا. فخطر له أن يخدعهم كما خدع القرضاب وتظاهر بالنوم على عتبة الدار، فتجمع الثلاثة بعد قليل، وسمعهم ورقة يقولون: نراه عاد إلى داره مبكرا. هذا ابنه زيد نائم على عتبة الدار. لو عاجلتموه! قال أحدهم: لا تفعلوا، وإلا أنذرتموهم بما نحن بصدده. دعوه، وانتظروا حتى يترك محمد داره في الفجر إلى مسجد ابن أبي قحافة.

2

Shafi da ba'a sani ba