فلما خلا الحارث بورقة قال: والله يا ورقة لا يمنعني من أن أعلن إسلامي إلا ما يمنع أبا طالب والعباس. فأبو طالب بائع عطر، وبر أحيانا
3
رزقه فيما يبيع للمشركين والعباس: صيرفي،
3
مورده فيما يقرض أهل الطائف ومكة. وكرامتهما في مكة - إذ هما ابنا عبد المطلب حارس بيت الله - ما داما مع قريش وأوثانها ولو في الظاهر كما أرى، وإني لأخشى أن تقاطع قريش بني هاشم بما مالوا عنهم إلى أخيهم محمد بن عبد الله. إني سمعتهم يتحدثون الليلة في هذا، ولكنهم لم ينتهوا بعد إلى إقراره. فادع الله في صلاتك أن يصدهم عن هذا، والآن فخذ، ثم أخرج من جيبه رقا وناوله إياه. قال ورقة وهو يقرؤه: ما هذا؟ عتق فتنة! قال: أجل، كانت لنا في مجلسه مع ذئاب قريش جولة وصولة، قبحهم الله جميعا. ليس فيهم رجل رشيد حتى ولدي النضر، بل كان أشدهم معارضة لي ... وأنا أبوه! ولكن ابن جدعان مضى على سجيته من الكرم وأعتقها إكراما لي، وكان عمرو - الذي تسمونه أبا جهل - أشدهم كرها لما فعل ابن جدعان. نهاه أولا، ثم عرض أن يشتريها؛ ليعذبها ويقتلها كما عذب وقتل سمية. فلما رفض ابن جدعان هذا الطلب طلب إليه عقابها قبل عتقها. فقال ابن جدعان: لا تكن يا عمرو فيمن يستعدي على النساء، لو قتلتها أنت بالأمس ما عاتبتك. أما الآن فقد أعتقتها وإني مع العتق أحميها. قال: تركتها رعيا لك. قال: بل لجروح وجهك فيما أرى! وكان وجهه مخموشا خمشا ثقيلا، فغضب ونهض من مجلسه يزمجر. قال ورقة: ما لي على شكرك يدان يا سيدي. قال: لا شكر على ذلك. كان حقا علي أن أنقذ هذه الفتاة بعد ما علمت من أمرها من أم لمياء ومنك، والآن فانصرف إلى أهلك فودعهم وتلطف، ثم اذهب من فورك إلى هدى. إني مقيم هذه الليلة في مكة؛ لأستعد لهذه السفرة، وسترى دنيا غير هذه الدنيا يا ورقة. ليس في بلاد هذه الجزيرة ما هو أطيب منها ولا أسعد، وإذا جاء الصبح فأعدوا حملونا للرحيل والقني في مصعد هدى في الضحى على طريق اليمن. لا حاجة بنا للمقام بعد اليوم في هدى، ولكن حذار أن تمر بحراء. كن رجلا . سلم على القبر إذا بلغت طريقه. عدني بذلك. فانحنى ورقة وقبل يد أستاذه، وقال: عهد الله يا سيدي ما تريد. قال: كذلك، ثم انصرف في طريقه وانصرف ورقة إلى دار أبويه.
لقيهما وقت الغداء، وكان معهما بلال، فهللوا لرؤيته فرحا؛ إذ لم يكونوا في انتظاره، ودعوه للغداء فجلس، وكان أشدهم اغتباطا به بلال - رضي الله عنه - فقد علم حديثه. فلما أتى على ذكر عتق فتنة لم يتمالك بلال أن يكبر، على عادته عندما يرى للإسلام علامة نصر، تكبيرة سمعت في الطريق، ثم وقف وسجد لله شكرا، وأخذ يبكي لشدة قرحه، ويدعو لورقة وللحارث، وشكرته أمه وباقوم على بره، وانتهز ورقة هذا الظرف فقال: وقد رأى الحارث أن يبعدني الآن عن مكة وأبي جهل، فاعتزم سفرة قصيرة إلى اليمن ليقفني فيها على العقاقير اليمنية وما توصف له ثم نعود، على أن أتجر في مكة وأستقر. قال باقوم: حسن ما يفعل. أليس كذلك يا تماضر؟ فلم ترد، ولكنه رد عنها فقال: بلى. بلى. ادعي له بالسلامة، ثم نهض باقوم وسار إلى غرفة مجاورة حين كانت تماضر تقول: كتب الله له السلامة. في أي عير تذهبون؟ أم تذهبون عيرا بأنفسكم؟ لم يكن الحارث قد أفتاه في ذلك، ولكنه قال: إن مولاي الحارث كان يريد أن يرحل بعد ثلاثة أيام، ولكنه بعد لقاء أبي جهل في بيت ابن جدعان رأى أن نرحل في الغد، وأوصاني أن أذهب بعد رؤيتكم إلى هدى؛ لأعد الحمول، فلعله سمع في بيت ابن جدعان بقيام عير إلى اليمن. قالت: ليس في ذلك دليل. قال بلال: بل هناك عير راحلون في الغد. هكذا علمت؛ إذ كنت في السوق عند مولاي أبي بكر. قالت: على بركة الله يا بني، وكان باقوم قد عاد بعد مدة قصيرة فلما سمع دعاءها قال: إن دعاء الأم أبلغ الدعاء وأحقه بالإجابة. خذ يا بني هذه الدنانير. إذا احتجت إلى النفقة فأنفق منها، وإن لم تحتج إلى شيء فاشتر بها كلها عقاقير من اليمن تجعلها في متجرك يوم تعود. هي خمسة وعشرون دينارا ، ولا أوصيك في توديعك بشيء. حسبك من دينك أنه يعصمك من كل سوء. اجعل تقوى الله في عينك وفي قلبك، وقال بلال: الزم إقامة الصلاة؛ إنها كما قال رسول الله: تنهى عن الفحشاء والمنكر. قال ورقة: اللهم أوزعني أن أشكر نعمتك على كل من يحيطون بي، وفيما استودعت قلبي من النور والهدى.
وكان العصر قد آذن فنهضوا جميعا للوضوء والصلاة، واستعد ورقة للرحيل، ولكنه ما كاد يهم بتوديعهم حتى قرع عليهم الباب ففتحوه، وإذا زيد بن حارثة قادم بعشرين دينارا من سيدته أم المؤمنين هبة منها لورقة على أن يشتري بها عقاقير لتجارته. فلهجت ألسنة أهل الدار بالدعاء لها والشكر لله على نعمته، ولم يشأ زيد أن يترك ولده في الإسلام بغير تذكار فنزع عنه حسامه وحميلته وقلده ورقة، وقال: خذ هذا يا ورقة. هذا من سيوف رسول الله فهو أثمن من كل معدن. واعلم أن شرفك في حده، وكرامتك في ظباه، ما إن عرفت متى تجرده من قرابه. قال ورقة: إن لله عينا علينا نحن المؤمنين يا زيد وله في قلوبنا إلهاما إلى الرشد والخير معا، وإني والله لأرجو أن اعتصم بالدين من نفسي، وبنفسي من بغي الناس والأذى، فادعوا الله جميعا أن يفرغ علي هداه. فدعوا كلهم له بالسداد، وإذا باقوم ينادي: يا زيد، لقد كنت أشعر وأنا أعلمه المسايفة والرماية في شعاب الجبل أن الله يدفعني إلى ذلك دفعا، وما هون قطع قدمي علي شيء كاعتقادي أني أكملت تعليمه ضرب السيف ورمي القوس، وأنه لم يعد في حاجة أن أخرج معه إلى الجبل، وإنه والله ليعرف متى يجرد السيف من قرابه ومتى يغمده. بل لعمري إن له من خلقه وما يتبين الناس فيه من الشهامة والاعتزاز بالكرامة ما لا يطمعهم فيه. أستودعك الله يا ورقة. سر على بركة الرحمن. فودع ورقة عمه ووالدته وداع الابن البار، وودع بلالا، وخرج مع زيد متجلدا إلى حيث استودع جواده. •••
بلغ هدى، وبلغ دار طويف في مغرب الشمس فوجدهم في انتظاره خارج البيت، ووجد معهم بعضا من أهل هدى كانوا قد جاءوا؛ ليشتروا من دكانة طويف، أو يقضوا بجوارها بعض الوقت على عادة الناس؛ إذ يرون الدكاكين أجمع لشتيت الناس فيلتمسون الفرجة بالحديث معهم. فلما لمحت فتنة رأس جواده يطل من المرتقى صاحت: هاهو ذا ورقة. فاتجهت العيون صوبه كأنما تسائله. فحياهم من بعد بالإشارة تحية الفرح الظافر، وأخرج من جيبه الصرة التي كان قد أعطاه طويف إياها في العشية ثمنا لفتنة أو مهرا لها، وقال: خذي يا فتنة. أصبح الآن هذا المال مهرك. لقد أعتقها ابن جدعان فهي حرة تمهر، وهذه شهادة العتق! ثم أخرج الرق من جيبه، وناولها إياه، وترجل. فصاح الجمع مهللين مكبرين، وانهالت فتنة على يده تقبلها وتبكي، وتبعها طويف وسعدى في ذلك داعيين شاكرين. فقال لهما: لقد صح منكما العزم على الزواج وتراضيتما، فعلى دين من تتزوجان؟ على دين الجاهلية والأوثان أم على دين الرشد الحنيف؟ قال طويف: بعدا لدين الأوثان ومقتا للمشركين. إنما نتزوج على دين من أنقذ هذه الفتاة من الضلال، وجعل لها في الدنيا أهلا وإخوانا، دين الطهر والعفة والرأفة وسعادة الدارين. قالت فتنة: فأنا لك يا طويف الزوجة الشاكرة البارة، ولأختك الأخت الوفية المقرة بالجميل. فقالت سعدى: واشهدوا يا قوم أني خلعت دين اللات والعزى، واعتنقت منذ لقيت فتنة دين من يحمي العرض ويرعى النساء، ويحفظهن من غواية الشيطان. قال الجمع الحاضرون: دين من هذا؟ لقد شوقتمونا أيها السعداء. قالوا جميعا: هذا دين محمد بن عبد الله. اشهدوا معنا أيها الناس إن أردتم لأنفسكم النجاة، أو فاشهدوا علينا. قالوا: بل نشهد معكم وعليكم، واشهدوا علينا كذلك. قال ورقة: اشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله إلى الخلق أجمعين! فردد الجمع الشهادة صائحين، حتى كانت لصيحتهم رجة في أرجاء الجبل توارد عليها أهل هدى؛ ليروا هذا الحادث العظيم.
وسرعان ما دخلت سعدى إلى الدار فصبت في جفنة عسلا وماء وعطرا من الورد، وأتت به تسقي الحاضرين احتفاء بهذه الساعة المباركة . فلما شرب ورقة حمد الله وأثنى على رسوله، ثم سلم عليهم مودعا ومباركا على أمل اللقاء في صباح الغد، وتوارد الناس يهنئون طويفا وفتنة بالزواج، ويشربون ذوب العسل اللطيف المزاج.
الفصل العشرون
Shafi da ba'a sani ba