12
وكان إذا عاد إلى مكة في انتظار عمل جديد يخرج بالفتى إلى ما وراء الدور؛ ليعلمه الرماية والمسايفة على نحو ما كان يقاتل وهو جندي، ويقول له: إنك لا شيء ما لم تحسنهما، والولد يزداد كل يوم تعلقا به، وهياما بالبلاد التي كان يصفها، وباقوم يعده أن يسافر به إلى الإسكندرية ليريه الدنيا وأنواع الحياة، إلى أن كانا ذات يوم يسيران في بعض شعاب مكة عائدين إلى دارهما، وبعير شارد يرقل بجوارهما وعثر وانحل تحت خفه حجر صغير تلاه حجر كبير نال قدم باقوم فهشمها وانحدر وكاد يقضي عليه، وسرعان ما حمله ورقة إلى داره، ثم ارتد من فوره إلى بيت سيده ورقة بن نوفل؛ ليخبره خبره، ويستفتيه فيما يعمل لأبيه هذا وصديقه المحبوب.
الفصل العاشر
الحارث بن كلدة الثقفي
كان الحارث بن كلدة الثقفي أشهر أطباء العرب يومئذ، ملأ صيته العراقين واليمن وما بينهما،
1
وجاوزها إلى مدائن كسرى والإسكندرية، وكثيرا ما دعاه عواهل تلك الأقطار؛ لتطبيبهم مما كان يعجز عنه حذاقهم على أنه كان بفطرته نزاعا إلى النقل، شديد السأم من الإقامة مدة طويلة بمكان واحد، فما أن ينزل بناحية حتى يعاجله التفكير في الرحلة إلى ناحية أخرى في طلب العلم والصحة، والأنس بالأصدقاء والخلان، وما كان يجيء إلى مكة إلا ليزور قبر امرأته الوهبية أم أولاده: النضر الطبيب وقتيلة الشاعرة،
2
وأولاد أختها الكبرى، وليتفقد أحوالهم، وينفحهم بهداياه الغالية، وشيء من فيض ماله الكثير. من هناك يرحل إلى اليمن مارا بنجران فيقضي بها شطرا من العام في زيارة صديقه أبي الحارث الأسقف الوقور، وبقية من أقارب بني الحارث ظلوا في ربوعها بعد انتقال دولتهم إلى بني الديان، ومن هناك يرحل إلى صعدة وصنعاء؛ ليجتمع فيها بأحبار اليهود وعلمائهم الذين كانوا أول من أخذ العلم بالطب عنهم، ومن هناك يكر عائدا إلى مكة، ليرحل منها إلى الحيرة ، ومدائن كسرى ودمشق والقدس والإسكندرية، وهكذا دواليك.
ولكنه كان في سنواته الأخيرة يطيل مكثه في الإسكندرية على غير عادته، وإذا جاء إلى مكة لم يذهب بعدها إلا إلى اليمن متعجلا، ومنها يعود بطريق البحر إلى عيذاب في سواحل مصر، ومنها إلى قفط وقوص، ثم ينحدر مع النيل إلى منف والإسكندرية. ذلك لأنه كان قد اتصل فيها بالعالم قوزمان الطبيب وتزوج ابنته هرميون، وأعقب منها ابنة سماها لمياء اجتمعت فيها محاسن العرب والروم من الخلق والخلق معا، وتكشفت يوما بعد يوم عن زهرة فاتنة لكل من رآها، فكانت متعة أبيها، ونجعة قلبه، وقرة عينه، حتى لم يعد يفكر في مكة ولا من له فيها من البنين والبنات. وكان كلما أرسل إليه ولده النضر رسالة شوق وعتاب، أرسل إليه يعتذر بكثرة مشاغله، وما كانت مشاغله إلا بفاتنته لمياء الصغيرة.
Shafi da ba'a sani ba