2
وهي طفلة في الرابعة عشرة من عمرها؛ وإذ كان هذا الرجل على عظم شأنه نخاسا له جوار يساعين في مكة كما كان كثير غيره من عظماء قريش،
3
إذ كانت هذه التجارة السافلة مباحة فيها قبل أن يجيء بتحريمها الإسلام فقد دفع بالفتاة إلى الفحشاء، وأمر عبده أن يخصص لها بيتا ويعلق عليه الراية البيضاء التي اعتادوا أن يعلموا بها بيوت هؤلاء الجواري الشقيات.
نفذ العبد إرادة سيده، فأخذها إلى بيت كانت قد أخلته صاحبته بموتها وأنزلها فيه، والفتاة لا تعلم ما يراد بها، ولكن فساق مكة كانوا قد سمعوا في أنديتهم بفريستهم الجديدة، فأجمع نفر منهم على غشيان دارها، وأخذوا لليلتهم الليلاء حاجتها من غبوق وصبوح، ومزاهر وأعواد، وذهبوا ليقضوا سهرتهم مع هذه الطفلة المسكينة يهديهم العبد متهللا، ويدعوها إليهم منبسطا، ويعرضها عليهم مزهوا ومفاخرا، والفتاة لا تكاد تصدق ما ترى، ولكنها لم تجرؤ أن تفصح عما ساورها من الشك في مآربهم، أو تبين عما تملكها بعد ذلك من الذعر من اجتماع رجال ذوي لحى وشوارب في غرفة لها. حتى إذا دنا منها أبو سفيان
4
وكان أحد هؤلاء الفساق، وأخذ يداعبها أسفل مداعبة، رأت كفيها تتعاروانه باللطم على عقنه ووجهه من حيث لا تدري. ثم هبت من مكانها صارخة صراخ من أصابته جنة، ومرقت من بين الجمع مروق الهرة من النار، خارجة من دارها في حلكة الليل؛ حتى إذا لمست رجلاها أرض الطريق ركضت في الظلام على غير هدى، تلتمس مهربا وحمى، والعبد يتابعها راكضا وراءها، ولكن المسكينة لم تجد أمامها إلا بيوت أمثالها من الجواري، وانعطف بها الدرب فدخلت في طرقات الشعاب المجاورة لبيت الله، ولكنها لم تجد فيها بابا مفتوحا ولا مصباحا منيرا؛ إذ كان الناس نياما في أول الهزيع الثاني من الليل، وكانت تخشى إذا هي وقفت تطرق أحد الأبواب أن يدركها العبد فيمسك بها ويضربها ويعيدها، فاستمرت تجري وتختبئ حتى لمحت في الحلكة نورا قد انبعث على غير انتظار من منعطف باب، وخرج من هذا الباب شبح. فقصدت إليه وهي على آخر رمق. فلما دخلته ألفت في ردهة الدار سيدة وقورة دون الأربعين من العمر يدل مطلعها على عظيم الخير الذي ضمت عليه جوانحها. فلم تملك الفتاة إلا أن تلقي بنفسها على الأرض أمامها ضارعة بغير كلام؛ إذ كانت قد استنفدت نفسها في الجري، ولكن السيدة لم يسعها وقد رأت علائم الذعر الشديد على وجه الطفلة إلا أن تتقدم إليها فاتحة ذراعيها، وتأخذها في صدرها قبل أن تسقط على الأرض أخذ الأم ولدها، وهي تقول لها: لا بأس عليك اطمئني، والطفلة غائبة عن الوعي، والسيدة لا تدري سبب ذعرها، ولا تجد فائدة من أن تسألها وهي على هذه الحال، وإذا بالعبد يدخل الدار لاهثا من شدة الجري، ويضع يده على الفتاة ليأخذها قسرا، وهو لا يدري من السيدة، ولا هي تدري من العبد، وكاد يغلب السيدة على الفتاة لولا أنها صرخت في وجهه صرخة عرف عزة الكرام من نبراتها، فكف يده عنها وتراجع، وإذا هو أمام خديجة بنت خويلد سيدة نساء قريش. تراجع العبد مرة أخرى في خشوع، ووقف ينظر ما وراء ذلك، فلما هدأ نفسه سألته سيدة قريش: من أنت يا غلام؟ فقال: أنا غلام عبد الله بن جدعان، وهذه الفتاة جاريته. قالت: وما خطبها، قال: أرسلها مولاي لتحل محل جاريته «سريفة» التي قضت نحبها منذ أيام، ولكنها لطمت أبا سفيان وصرخت في وجوه المخادنين، ومرقت في الشعاب آبقة. قالت: ألا ساء ما تفعلون. لاهم إن هذا منكر لا يرضيك! اذهب إلى مولاك فادعه إلي. قال: لا أجرؤ يا سيدتي. قالت: ولا أنا أردها إليك. الله أرسلها إلي لأعيذها منكم، ولقد أجرتها فاذهب أنى شئت.
أفاقت تماضر عند ذلك من غشيتها، ووجدت نفسها في صدر كصدر أمها، وسمعت حديث السيدة فأخذت تبكي وتنشج في البكاء، والسيدة خديجة تطمئنها، وتمسح بيدها على رأسها لتسري عنها، وإذا بغلامها ميسرة قد عاد؛ إذ هو الذي كان قد فتح الباب وخرج في حاجة عرضت لها، فأمرته أن يسير بها إلى حيث يرقدها بجوار فراشها ويعود إليها. فقال العبد: ماذا تريدين من مولاي يا سيدتي؟ قالت: أحادثه في شأنها وأبتاعها منه. قال العبد: حبا وكرامة يا سيدتي، لقد أذن لي مولاي من قبل أن أبيعها بأربعين طبريا إذا رغب فيها راغب. قالت وإني لراغبة. هات يا ميسرة مما لديك أربعين دينارا وزدها واحدا لغلام ابن جدعان.
فأتى ميسرة بالمال وعده للعبد، ثم زاده الفضل الذي أمرت به سيدته فأخذه العبد، وخرج شاكرا مطمئنا.
وظلت تماضر في خدمة سيدتها ثلاث سنوات كانت محل الرعاية والإكرام من سيدتها إلى أن حدث ذات يوم أن احتاجت سيدتها إلى سقيفة تقي تجارتها الشمس والأعاصير، فجيء لها بنجار كانت تعرفه وترتاح إلى عمله، وكلفته عمل هذه السقيفة.
Shafi da ba'a sani ba