152

كان فرحة السلار بهذا التدبير عظيمة جدا، ولكنه صمت يفكر ويتأمل بطرس متفحصا ومقلبا الأمر على ألف وجه، ورأى أنه أمام رجل كل ما فيه يدل على الخيانة، وخشي أن تكون روايته إحدى مكائد الحروب قصد بها أذاه فأخذ يسائله؛ ليتبين أمره، فقال له: وما كلمة السر الليلة؟ قال بطرس: «الأمانة». هي كلمة رهيبة يا مولاي، ولكن انظر هل لي حق في خيانة أمانة هؤلاء الناس، أم لا؟ على أثر وصولي الإسكندرية في طلب العلم ودخولي معهدها رأيت أحد أساتذته الروم يتألفني تألفا لم يكن له في نظري مبرر يومئذ، ولكني عرفت أن السبب في ذلك ما نمى إليه من أني من أسرة غنية في منوف، وأن أبي يرسل إلي كل شهر مقدارا كبيرا من المال. فخطر له أن يرتزق من ورائي، وكذلك كان يبدي اهتماما بدراستي، ويدعوني إلى منزله، وقدمني إلى زوجته وابنته، وكان يسمح لي بالاختلاء إلى ابنته؛ لكي يثير فينا أمنية الشباب، والواقع أنه تمكن بهذه الواسطة من إيقاظ حب شديد في قلبي لهذه الفتاة حتى أوشكت أن أجن بها فعرضت عليها أن أتزوجها فقبلت، وذكرت الأمر لأبويها فقبلا، ولكنهما أجلا التنفيذ إلى مدى. ثم أعلنني أبوها بأنه يخشى أن أترك ابنته وأعود إلى بلدي في جزيرة منوف، وأنه لكي يضمن بقائي في الإسكندرية يجب علي أن أبيع أرضي وعقاري هناك، وأشتري بدلهما من أرض مريوط وأملاك الإسكندرية، وأن أكتب العقد باسمها ففعلت لفرط حبي لها، ولكنه أخذ يماطلني، ورأيت منه عين الغدر ومن الفتاة عين الرغبة في الخلاص مني؛ لأنها اشتهت أن تتزوج بمالي رجلا من كبار رجال القصر، وعبثا ما حاولته لإتمام الزواج، وفي يوم من الأيام دعاني إليه ضابط المخفر، وقال لي: إنه محرم علي أن أطرق بيت الرومي؛ لأنه لا يريدني، ولأن ابنته مخطوبة لضابط مثله، وأنه إذا رآني في الحي الذي تسكن فيه خطيبتي فهو لا يكتفي من الأمر بحبسي، وعبثا ما حاولته لإقناعه بهذا الظلم فقد أغرى الضابط بي جنوده فتعاوروني وضربوني، وساقوني إلى منزلي لآخذ منها ملابسي، وأخرجوني بها من الإسكندرية، وأنذروني بالقتل إذا هم رأوني فيها بعد ذلك اليوم.

خرجت، ولكني لم أطق البقاء خارج الإسكندرية، بل أخذت أفكر في طريقة للانتقام، وأخذ خطيبتي، التي أعلم حق العلم أنها تحبني لولا سلطان أبيها عليها، ولذلك احتلت حتى عدت، ولا أطيل عليك القول - فقد كان اضطراري للاختفاء سببا في الالتقاء بجماعة من أهل كنيسة الإنجيليون اليعقوبية وفئة من اليهود، والاشتراك معهم في العمل؛ لإقامة ثورة في المدينة تساعدك على الدخول، واجتمعنا في بيت قديم.

فلما جاء ذكر هذه القصة التي يعرفها السلار تنبه، وأخذ الشك يزايله من ناحية الرجل، وقال له: قل. قل؛ فقال بطرس: اجتمعنا كلنا، ومعنا أحد ولاة اليمن اسمه إسحاق بن مرداس. قال السلار: نعم، ومن؟ وحبر من أحبار اليمن أيضا. قال: صدقت، وكان معهما أموال وسلاح. قال: صدقت. قال: إذن لا أطيل عليك القول. علم بعضهم باجتماعنا وعرفني المبلغ فأهدر الوالي دمي، وطلبوني في كل مكان فخرجت من المدينة هاربا. ثم عدت واحتلت في الدخول لأنتقم ... اشتغلت حمالا، ثم صيادا أملا في أن أعرف كلمة السر لأستفيد منها، وأحسنت ثقة الرئيس بي؛ لكي أتمكن من أن أنوب عنه عند الحاجة، ولكن هذه الحاجة لم تبد على عجل. فقد بقيت في انتظارها خمسة أشهر، ومنذ أيام دعاني أستاذي صاحب مراكب الصيد الذي أشتغل معه، وعهد إلي رياسة الصيد والإمرة؛ لأنه مريض، ولأني محل ثقته دون سائر الصيادين، وعرفني إلى ضابط المرفأ والجند الموكلين بحراسة باب البحر وملأهم بي ثقة، وأبلغهم أني وكيله وصهره المنتظر، وإلي تعطى كلمة السر كل ليلة وتقبل مني لذلك. فهل تراني على حق في خيانة أمانة أولئك اللصوص الكفرة؟ قال السلار: على الحق الأعلى، وأنا واثق بك الآن كل الثقة، وسأعطيك عشرة من رجالي توجههم في مصلحتك على هواك. قال بطرس: شكرا لمولاي. هذا ما قدرته؛ ولذلك لم أتردد في أن أستعد للأمر من قبل أن أجيء إليك فاشتريت لك باسم أستاذي المريض قمصانا وقلانس مما يلبسه الصيادون، وجئتك بخمس سفن من سفنه، وهي الآن على مدى مائتي خطوة منك مربوطة إلى الشاطئ في حراسة رجلين من أخلص رجالي وأشدهم رغبة في نوالك. فهل أنت مستعد لتنفيذ ذلك؟

قال السلار وكان يلهث من شدة سروره: مستعد! وددت لو أجعل هذه الضياء ظلاما، وأشرع في العمل على الفور. سأعد العدة لذلك لتوي، وعلامة على شكري لك وللرجلين خذ هذا الكيس نصفه للرجلين ونصفه ثمن الملابس التي جئت بها. إن فيه مائتي دينار، وسيكون أجرك بعد هذا مضاعفا عشرين مرة أو خمسين، وسيكون لك ما أردت؛ لتظفر بالفتاة على أي صورة شئت. ماذا أنت فاعل الان؟ قال: أعود إلى الإسكندرية؛ لأخرج ببقية رجالي إلى الصيد، وأتركهم يصطادون، ثم أجيء إليك في السحر في سفينة صغيرة؛ لأدخل جندك إلى الخليج.

هل أعدم حيلة وأنا في البحر على هواي؟ قال السلار وقد ضحك طربا: لا وربي. من دبر كل هذا لا يعدم الحيلة. قال: إلى الملتقى إذن يا سيدي. قبل الفجر بساعة. ثم ودعه بتجلة، وشيعه السلار بفرط الإكرام والشكر.

الفصل الثامن والأربعون

اجتماع الشمل

في الوقت الذي كان فيه بطرس البحريني يحادث السلار شاهين، ويشترط عليه أجره في إدخاله المدينة، والحارث بن كلدة حبيسا هو وصاحباه في مرفأ لوكياس في غرفة السفينة - كان ورقة وأورست قد عادا إلى الإسكندرية، ولقيا الأمير بما كان معهما من رسائل الإمبراطور السيء الحظ، وإذ عرف الأمير ما فيها من استحالة إمداد الإسكندرية بشيء من المئونة أو الجنود - أمر من فوره بدعوة جميع أعضاء المجلس الحربي؛ ليبلغهم رد الإمبراطور، ويتذاكر معهم فيما يجب عليهم فعله؛ لتموين المدينة، وزيادة حاميها، وإلا سقطت في يد الفرس، وطلب إلى أورست أن ينتظر؛ ليحضر المجلس، ولأنه يريده هو ورقة بعد انصراف الأعضاء؛ للتكلم معهما في أمر خاص جاء إليه في الرسائل. فانصرف أورست وورقة مثقلي القلب بما بدا على وجه الأمير من الهم، وشعرا أن هناك أمرا يشغل باله غير أمر المؤنة والجنود، وقدرأنه توقع سقوط المدينة في يد الفرس، وإذ إن أمور الحياة مرتبطة فقد اتجه فكرهما إلى ما هما قادمان عليه من أمر الزواج حين أن المدينة ساءت حالها، وملك اليأس القلوب فيها، والزواج أمر يجب له انشراح القلب، وطمأنينة النفس، وامتلاؤها بالأمل المشرق. فقال أورست: لقد فكرت في أن أنتقل بهيلانة إلى الغرب يا ورقة، وأقضي في قيرين ما يشاء الله لي من الزمن، ثم أعود إلى الإسكندرية بعد ركود العاصفة. إن لي سفنا في كانوب، ومن السهل أن أرسل في طلبها إلى مرفأ القصر لو سمح الأمير لي بذلك؛ لأرحل عليها، وليتك يا ورقة تكون معنا! قيرين آمن مكان، ولكنك لا تستطيع فراق مولاك، ولا هو يستطيع فراقك حتى ولو رحل عن الإسكندرية. من يكتب عنه نيقتاس إلى مولاه بمثل ما كتب عنك لا يتركه بل ولا يجمل بك أن تتركه. قال: لن أتركه حتى نموت معا. قال أورست: ولمياء وأمها؟ قال: سأجيء بهما إلى بيت هيلانة هي وقوزمان؛ لكيلا أضطر إلى تركه لحظة. هكذا اقترح الأمير يوم سافرنا. كما أنه قال لي إنه إذا رحل عن الإسكندرية - وهو ما أكاد أراه الآن - رحلت معه، ولقد ذكرت الأمر لهما ولقوزمان في حينه فأقروه، وأقرته السيدة هيلانة أيضا، وهي تؤثر الرحلة إلى إحدى جزائر البحر الرومي على أن تتجه إلى الغرب كما كان أبوها يرى. قال أورست: إذن فإلى جزائر البحر أنتقل بها ما دامت تؤثرها. ليس لي حاجة خاصة في قيرين على أني أرى في هذه الحالة أن أكون معكم. ترى هل يأبى الأمير ذلك؟ قال ورقة: لا أظنه يأبى. هذا أمر لا تعب عليه فيه، ولكننا نرجو الله ألا يلجئنا إلى فراق الإسكندرية، وفيما هما يتذاكران دخل عليهما حارس الباب يقول لورقة: إن بالباب غلاما عربيا لا يعرف من الرومية كلمتين يريد لقاءك. فضحك ورقة، وقال: فكيف عرفت قصده إذن؟ قال: إنه يكرر اسمك، ورقة، ورقة، ويحمل رسائل أبى أن يسلمها إلا إليك يدا بيد. قال: هاته هو والرسائل، وأخذ ورقة يسائل نفسه: ترى من يكون هذا الغلام؟ ولكنه لم يهتد إلى جواب حتى رأى الغلام قادما في عباءة وعقال وسيف كأنه بطل صغير.

ولشد ما كان فرحهما باللقاء، فقد تعلق رؤبة برقبة ورقة، وأخذ يقبله ويقبله، وورقة محتضن له يقبله كذلك، وأورست يتأمل هذا المشهد ويعجب، وقد خطر له أنه أخوه أو أحد أقربائه، ولكنه علم بعد ذلك نبأه، ونبأ الشملالة، ولما هدأ الحال تناول ورقة الرسائل، وأخذ يقرؤها واحدة بعد أخرى، والغلام لا يغمض له عنه جفن لشدة سروره وإعجابه، وورقة يسائله عن أخبار بيت رسول الله، وما فعل المشركون بالمسلمين في هذه الأيام، والغلام يجيب بالقول الفصيح والبيان الذي عرفه منه ورقة، ولشد ما كان فرح ورقة عندما علم أن أجواد قريش لم يسعهم بعد ما أكلت الأرضة صيحفة الأذى إلا أن ينقضوا ما كانوا تعاهدوا عليه من مقاطعة بني هاشم جزاء حمايتهم رسول الله، ويعيدوا المياه بينهم إلى مجاريها.

أما قصة رؤبة فهي أنه جاء مع البريد منذ أشهر، ولكنه علم أن ورقة لم يكن قد عاد بعد من بلاد الروم، فوجد من الخير أن يبحث عن بيت سيدته لمياء؛ ليستضيفها فقد علم من الرسول أنه تزوجها - فذهب إليها، وبقى كل يوم يتردد على القصر؛ ليسأل الحارس عن ورقة حتى علم الآن أنه عاد، فرجع إلى لمياء يخبرها وعاد إليه بالرسائل؛ فسر ورقة بتصرف الغلام، وأطلع أورست على ما فعل، وأخذ يسائله عن أحوال آل بيت لمياء؛ فطمأنه، وذكر له أشواقهم وتحياتهم.

Shafi da ba'a sani ba