ونادوا في مكة يقولون: يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون ولا يبتاع منهم؟ ألا لتفتح الأسواق لهم، ويكن لهم فيها ما لنا، وكنا ذاهبين لنخبر مولاتنا أم المؤمنين بهذا الخبر، وكنت أرجو أن أكون أسبقهم إلى ذلك فإذا أنت تمنعني، قال رؤبة: يجب علينا أن نحمد الله على برهانه، وعلى انتهاء ضائقة المسلمين، ثم ودعه وانصرف في طريق صاحبه.
وكان قد سبق لمن نقضوا الصحيفة أن اجتمعوا في بيت النضر بإخوانهم من المشركين، وتذاكروا في شأن نقضها مع أبي جهل والنضر وابن أبي معيط عندما علموا بقدوم أبي طالب، وما لقي إخوانهم بنو هاشم من الأذى طوال السنوات الثلاث التي قضوها في الشعب، وأعلنوهم بعزمهم على نقض الصحيفة. فرماهم هؤلاء بالنكوص والخيانة، وحدث بينهم في بيت النضر ما حدث من التشاتم والتنابذ قبل مقدم رسول نيقتاس. فلما خبره خبر زواج لمياء من ورقة كان في خبره الصدمة الكبرى لفؤاده فأصابه ما أصابه.
علت الزغاريد في حي بني هاشم، وتوارد الموالي على الأسواق يشترون ويستبضعون وهم آمنون، وشهد رسول نيقتاس هذا فسره الأمر، ولكنه كان قد اشترى حاجة الغلام وخرج بها فلقيه قادما عليه وهو مطمئن فهنأه بما كان، وشكره رؤبة على فضله، وأبلغه أن باقوم في انتظاره.
قضى المصري يومين في مكة كان فيهما محل الرعاية من باقوم وتماضر وبلال وزيد بن حارثة، وذكر فيهما زواج ورقة من لمياء بنت الحارث بفضل الأمير، فزغردوا فرحا وسرورا، وذكر ما يلقى من رعاية الأمير، وما بلغ إليه من العزة والمكانة، وخبرهم أن في نية ورقة أن يأتي بأهله إليه عندما تستقر الأمور في الإسكندرية، وطمأنهم عليه قولا بأن الفرس يوشكون أن يتركوا المدينة يأسا من حصارها، وأيده باقوم في هذا الرأي، وكان بلال يسائله: هل رآه يصلي؟ قال: إنه لم يره يصلي، ولكنه علم من الجنود الذين تحت أمره أنه يصلي مرتين في اليوم بعد أن يغتسل اغتسالا خاصا لهذه الصلاة، والأمير يحبه لهذا حتى لقد قيل إن الأمير يصلي معه.
لم يكن هذا صدقا فيما يختص بالأمير، ولكن حب الجنود لورقة، وتأثرهم بما يروى عنه، وما يعلمون من تمام صلاحه، وارتياح الوالي إليه - جعلهم يتقولون أشياء مما ينسجم فيما يعلمون، وعند ذلك عن لبلال - رضي الله عنه - أن يهدى القبطي رسول نيقتاس إلى الإسلام؛ لأنه عربي من مواليد الإسكندرية اليعقوبيين، ولذلك لم يغادر رسول نيقتاس مكة حتى كان قد أسلم وصلى، وأخاله لقي رسول الله مبايعا ومتمليا من نوره، ومعاهدا له على التوحيد والأمانة لله.
وكان رؤبة قد هامت نفسه شوقا إلى صديقه وسيده ورقة، واشتهى أن يراه، وألح على أمه في ذلك، ولكنها لم تكن تستطيع أن تجيب هذا الرجاء على الفور حتى ترى رأي من معها، وكان الجمع قد سمعوا قصته فوافقوا على سفره مع الرسول تحقيقا لرغبة الغلام الوفي، وليكون في خدمة ورقة في وحشته.
ولذلك زودوه بما يجب للطريق من المال، وحمله كل منهم رسالة إلى سيده ورقة، وخرج به الرسول عائدا إلى الإسكندرية من طريق الصحراء فالبحر فميناء لوكياس، ومنها دخل إلى القصر بفضل ما معه من جواز المرور، وبأنه من برد القصر المعروفين.
الفصل السابع والأربعون
باب القمر
طال وقوف الجيوش الفارسية وراء أسوار الإسكندرية يحاولون تهديمها بالمجانيق ومدافع النار الإغريقية فلا يستطيعون أن يزعزعوا منها حجرا، وكلما دنوا من الأسوار بدباباتهم المصفحة بالحديد يحاولون اعتلاء الأسوار بما يلقون عليها من غلالات من النار؛ ليزحزحوا عنها حماتها انصب عليهم من أبراجها شواظ نيران مثلها تفني راكبي تلك الدبابات من جنود الفرس والعرب الذين اقتحموا أسوار القدس منذ عهد قريب، وجيء بهم لينالوا مجدا آخر على الروم بفتح الإسكندرية، ووقف السلار شاهين أما فسطاطه القائم على تبة في تلال نيكر وبوليس
Shafi da ba'a sani ba