146

بلغ الحارث وصاحباه ميناء لوكياس، ويا هول ما لقي: ما كاد رجال الأسطول يلمحونه حتى خرجت إليه حراقة عليها نفر من شياطين البحر جمعوا سفينته إليهم، ونزل بها ثلاثة رجال شاهرين السيوف يسائلونه من هو؟ ولم جاء؟ وكيف جاء؟ ولم ينتظروا حتى يجيبهم، بل تعاوروه ونقلوه هو وصاحباه إلى سفينتهم، وأنزلوهم في غرفة مما يعد لسجن الجنود حتى ينظروا في أمره.

كانت أوامر ضابط الميناء الأميري شديدة جدا، ولذلك كان في استطاعة الحارث أن يدنو بسفينة من الإسكندرية حتى يبلغ الأرض، دليل على تقصير كشافة الأسطول في أداء واجب الرقابة، ولذلك أرادوا أن يخفوا أمره عن ولاة الأمر بل فكر بعضهم في إغراقه هو ومن معه إخفاء لتقصيرهم، ومال الرقباء إلى الأخذ بهذا الرأي وتنفيذه، ولكنهم أجلوه حتى يدخل الليل فينفذوه في خفاء، ولكن حدث ما لم يكن في حسبان أحد؛ ذلك أن هؤلاء الرقباء خطر لهم أن يفتشوا حقائب الحارث وزميله؛ ليأخذوا ما فيها، فلما جاء الليل نزلوا الزورق الذي جاء فيه الحارث، وتعجل أحدهم في الانتقال إليه، وزلت قدمه وهوى في البحر، وإذ كان يحاول النجاة أمسك بجانب الزورق فقلبه بمن فيه ممن سبقوه، وغرقوا أجمعين قبل أن يتنبه إليهم أحد.

ولكن الحارث بقي في سجنه هو وصاحباه يومين كاملين منسيين لا يذوقون طعاما ولا شرابا، وكادوا يقضون جوعا، حتى إذا رأوا سفينة كريمة داخلة الميناء عليها علم القسطنطينية، خطر لهم أن ينبهوا إليهم من فيها فنادوا بأعلى أصواتهم: أيها الأمراء، انظروا إلينا وأنقذونا إننا محبوسون هنا منذ يومين وسنموت جوعا! هذا ما قالوه، ولكن لم يسمع كلامهم أحد، فقد كان رجال الأسطول يحيون القادمين ساعة دخولهم فلم يلتفت إليهم أحد؛ إذ زعموا أنهم كانوا مثلهم يحيون.

فلما مرقت السفينة الإمبراطورية القادمة، وهدأت الأصوات عادوا إلى الصياح فالتفت إليهم بعض رجال الأسطول، وإذ رأوا أشباحا غريبة السنحة عنهم والزي دنوا منهم، وساءلوهم؛ فانبرى الحارث يروي قصته على النحو الذي رآه أمثل به، وسرعان ما انتقل إليهم بعض ضباط السفينة وأخرجوهم، وساروا بهم إلى أمير الميناء.

كان أمير الميناء رجلا مهذبا، ولذلك ما سمع نبأهم حتى اعتذر إليهم مما لقوا، وأكرمهم بما وجب، وأمر لهم بحساء ساخن، ثم بطعام، وسمح للحارث أن يكتب ما يشاء للمقوقس؛ ليرسله إليه.

الفصل السادس والأربعون

نقض الصحيفة

لم يجد رسول نيقتاس أبا لمياء في جدة، وخبره أهل الميناء أنهم شاهدوه يركب سفينة مصرية إلى عيذاب منذ أربعة أشهر، وإذ كان الرسول معروفا لهم بأنه بريد، فقد أشاروا عليه أن يسلم الرسالة إلى ولده النضر، ويفرغ من أمرها ما دام راحلا إلى مكة؛ لتسليم رسائل أخرى إلى بعض أهلها، وقالوا له: لعل النضر يستطيع أن يجيب عليها بما يرتاح إليه فؤاد المرسل، أو يدله على مكانه، أو يفيده بما ينتفع به المرسل من الأخبار.

على هذا رحل البريد إلى مكة، وقصد إلى بيت النضر، فلما استأذن عليه ودخل وجده في جماعة من أعيان مكة تبدو عليهم سيماء الكآبة والغيظ، وكأنهم كانوا يتحدثون في أمر جلل قطعه عليهم البريد بدخوله، فنظروا إليه جامدين وهو يحييهم، ثم رد النضر تحيته مقتضبا ولم يدعه إلى الجلوس. فجثا الرجل على ركبتيه وأخذ يقول: إني رسول سمو حاكم مصر، جئت إلى السيد الحارث بن كلدة برسالة من عنده، ولكني لم أجده في جدة كما قيل لي. قال النضر: هات الرسالة فأعطاه الرجل إياها واستمر جاثيا ينتظر جوابا: فلما نشرها النضر ليقرأها وجدها بالرومية فطواها، ونظر إلى البريد مغضبا، وقال: أنا لا أعرف الرومية. تتركها الآن حتى نجد من يقرؤها لنا ويترجمها. قال أحد الجلوس: لعله يعرف القراءة بالرومية أتعرفها يا فتى؟ قال: لا. إني عربي الأصل وإن كنت أتكلم الرومية، قال: فهل تدري فيم كتبت؟ قال: خبر سار؛ إن مولاي الأمير نيقتاس يخبر سيدي الحارث بزواج ابنته حفيدة العالم قوزمان من كبير حراس قصره، وهو فتى من أصل عربي شريف، عظيم الهمة، أصبح لفضله وأمانته وبره بمولاه صاحب الكلمة العليا في قصره، قال: ما اسمه يا ترى؟ قال: اسمه ورقة بن صليح، قال النضر مشدوها ونهض من مجلسه قليلا: ما اسمه؟! قال البريد: ورقة بن صليح! قال: ابن الجارية والنجار القبطي! أهذا هو الخبر السار الذي جئت به. إنه لأسوأ خبر. فأخذ الرجل بما رأى من استيائهم ولم يجب، وأخذ يقلب وجهه من الجالسين من طرف إلى طرف، فرأى النضر قد استطال وجهه وفمه، وجمدت أصابعه على الطومار، وحاول أن يتكلم فانعقد لسانه، وخشي أحد الحاضرين أن يخرج الوجد بالنضر؛ لما رأى من فرط ما دهاه لدن سماع هذا النبأ، فيؤذي الرسول.

فأشار إلى الرسول بعينه أن يتراجع ويحاذر، ثم مال على النضر ومد يده؛ ليأخذ منه الطومار الذي كتبت عليه الرسالة، ولكن يد النضر كانت قد شلت فلم يقو صاحبه على استلال الرسالة من قبضته إلا بعلاج طويل كاد يتلفها. كان هذا حليفه في الشر والفساد وأذى المسلمين: عقبة بن أبي معيط. جاءه منذ هنيهة يبلغه خبر سوء عظيم، فاجتمع السوءان على النضر في وقت معا، ولذلك أصبت بشيء من الفالج.

Shafi da ba'a sani ba