140

وبلاد داسيا وولاخيا

3

عن مورد من القمح يرسل تباعا إلى الإسكندرية ردا لما أخذت القسطنطينية منها، وأنه يجب عليهم أن يبادروا فيرسلوا إلى الإمبراطور رسالة بالواقع فإن أبى إلا أن يستنزف غلال مصر على العادة فقد أعذروا.

من الذي يرسلونه في هذه المهمة الخطيرة؟ أورست أكبر تجار الغلال في الإسكندرية، وأعرف الناس بإحصائيات المخزون والمدخر، وعضو مجلس المدينة الذي يستطيع أن يتكلم باسمها كما تكلم من قبل، على أن يرافقه الحارس الأول للأمير: ورقة، وعذرهم من هذا الجمع أن نيقتاس لم يكن حسن الظن بأورست، وقد سبق له أن اتهمه بالتشيع للإمبراطور فوقاس، ولم ينج من الاضطهاد إلا بشفاعة يوحنا الرحوم نفسه، فقرنوا به ورقة؛ لأنهم يعلمون أنه موضع ثقته، ولن يقيم اعتراضا على سفره، كما أنهم قدروا أن الإمبراطور سيسأل عن دخائل الأمور في عاصمة إمبراطوريته الثانية، ولا بد أن يتذاكر في شئونها مع الرسول، وإذ كان ورقة مطلعا على كل شيء في الإسكندرية؛ لعلاقته الدائمة بالأمير، وحضوره مجلس العسكر معه، واطلاعه على أسرار الدولة، ولوقوفه على ما كان يدبره اليعاقبة واليهود من المؤامرات، ولأنه حسن المدخل لا يتهيب أن يلقى البراطرة بما عودته الصحراء كما يتهيب الرومي الذي نشأ وعاش بين الواجبات والتزامات أهل القصور، فهو أفضل من يرسل في هذه المهمة، ورأوا أنه يحسن أن يرسل في طلب أورست الليلة؛ ليستعد للسفر ، وليتعرف إلى رفيقه، قال ورقة: إنه من أصدقائي وأشد الناس ولاء للأمير وللإمبراطور. قال البطريق وقد فرح لهذه الشهادة المفاجئة التي جاءت مؤيدة لحسن ظنه في أورست: نعمت الشهادة يا ورقة، إن الله يرسل برهان الحق المجهول على ألسنة من ليس لهم مصلحة في ترويجه. هذا أيها الأمير نيقتاس الذي وشوا لك في حقه فأبعدته عنك من غير أن تتبين. قال نيقتاس رادا لهذه الشماتة: سيذهب له ورقة برضاي ويستدعيه إلي. إن خطأ ورقة - إن أخطأ - أصدق عندي من برهان سواه! وكان ورقة يعرف سبب هذا الرد المؤلم للبطريق في مجلس الجيش فقد كان الأمير يرى أنه يعطي لنفسه من الحقوق ما ليس له، ويتدخل في شئون الحاكم في حين أن مهمته في الدنيا الصلاة والصوم وما يلحق بهما. فكان هذا الموقف معبرا عما في نفس الأمير من استرابة البطريق ومقته. فسارع ورقة إلى تغيير الجو بقوله: فداء الأمير دمي وحياتي.

على أن الأمير كان يشتهى ألا يفكر المجلس في حارسه الخاص، ولكنه لم يكن له بعد هذا الإيضاح إلا أن يوافق. غير أنه قبل أن يقول لا بأس بذهاب ورقة مع أورست - أخذ ينظر إليه مدة طويلة ذكر فيها أن سيحرم رؤيته، وقد أصبح يحبه كما لو كان ولده، وتذكر أنه وعد أن يلقى اليوم لمياء ليعقد عليها، وفى السفر تأجيل لذلك، وهو ما كان يشتهي أن يذاكر فيه ورقة على الفور، ولكنه لم يستطع فاكتفى بحديث العين، وكان ورقة في تلك الأثناء يفكر في بعده عن لمياء ووقع هذا النبأ عليها، ولكنه وجده أخف من أن تعلم أنه على شدة هيامه بها، ورغبته في أن تكون له - كان سيبدي للأمير إذا اجتمعا أنه يرى إرجاء العقد حتى تستأذن هرميون زوجها، ووجد في غيبته في القسطنطينية فرصة لذهاب الرسول إلى الحارث وعودته، أو ما كان سيبدي له من أن الحارث إذا قبل فمعنى قبوله أنه سيتحمل تعيير الناس من أجله، وهو ما لا يجمل به قبوله، ثم طار به الفكر في أجواز الأرض فانتقل إلى بلاد العرب والنضر وقريش، وغاب وراء أجواء وادي النيل، ثم عاد إلى الإسكندرية فرأى الأمير يبتسم في مواجهته كأنما يقول له ما رأيك في هذا الذي لم يكن في الحسبان؟ فقال له: نعم أذهب يا مولاي، لا أجد خيرا من ذلك مخرجا.

لم يكن ورقة يريد بقوله «مخرجا» ما فهم القواد منه، فقد زعموا أنه يريد المخرج مما كانوا فيه، ولذلك أثنوا عليه، وانبرى بعضهم يهونون عليه المشقة؛ فذكروا القسطنطينية وجمالها، والإمبراطور وأبهته، وغبطوه على رؤية الدنيا وجلال الملك، وإذ استقر الأمر على ذلك نهض الأمير فنهضوا، وودعوا بأطيب الدعاء.

خلا المكان إلا من الأمير والبطريق وورقة، وإذا بأحد الخصيان يتقدم فيبلغ ورقة أن العالم قوزمان وأولاده ينتظرون دعوة الأمير للقائهم كما أمر. فالتفت نيقتاس يسأل ورقة: فيم جاء الخصي؟ فقال له ورقة مبتسما وموعزا برأيه: الأستاذ قوزمان لم يعلم أنى مسافر إلى القسطنطينية، وأنه يحسن قبل أن يمضي شيء أن يرسل إلى الحارث بطلب إذنه في زواج لمياء، فهو يعلن مولاي بقدومه طوعا لأمره ليلة أمس. قال نيقتاس: ماذا؟ أأنت تريد إرجاء العقد على ابنة الحارث حتى تعود؟ قال: قد يرى مولاي ذلك. قال: بل لا أراه، وسيتم العقد اليوم على أن تتزوج بعد عودتك. سيكون ذلك أدعى إلى تعجيلك بالعودة، ولقد دعوت السيد البطريق ليبارك زواجك. ثم التفت نيقتاس إلى يوحنا؛ ليكلمه في هذا الصدد. فلم يكن لورقة بعد هذا التضييق إلا أن ينظر في مخرج آخر، فألهمه، ولذلك رد يقول: فضل من مولاي ونعمته، ولكنا نحن العرب لا نتزوج كما يتزوج الروم يا مولاي. قال البطريق: كيف ذلك يا بني؟ فقال: إني كما يعلم مولاي مسلم أدين بدين محمد بن عبد الله. قال البطريق وقد شغله اسم الرسول

صلى الله عليه وسلم

عما هم في صدده: أجل سمعت بقيام رجل في بني إبراهيم يدعو إلى إله إسرائيل. أهو هذا الذي أنت على دينه؟ قال ورقة: نعم يا مولاي البطريق، إنه يدعو العالمين كافة على توحيد الله لا ينكر أحدا من أنبيائه، ولكنه رسول الله على الخلق أجمعين؛ ليوحدوا الله، ويسقطوا الشرك. قال البطريق: أهو يؤمن بالمسيح؟ فقال: أجل على أنه

صلى الله عليه وسلم

Shafi da ba'a sani ba