129

أين هما؟ ماذا جرى لهما في الطريق؟ وماذا فعل الحارث إثر ما وصل إليه من القول المر في بطاقة امرأته؟ أما أين هما، فهما في منف

1

في قصر حاكم مصر عند نيفرت أخت قوزمان زوجة الحاكم. رأت هرميون وهي سائرة في سفينتها من قفط أن تنزل بمنف؛ لزيارة عمتها وقضاء بعض الوقت معها، ثم تستأنف الرحلة إلى دار أبيها في الإسكنردية، ولكنها وجدت زوج عمتها مريضا واشتدت علته، فلم تستطع أن تفارق عمتها، ولم تجد كبير داع إلى التعجيل، فكتبت إلى والدها تنبئه بعودتها من مكة، وأنها اضطرت إلى البقاء مع عمتها؛ لتعينها على شئون التمريض، وأشارت عليه أن يعجل بحضوره؛ لتطبيب زوج أخته، فجاء قوزمان، وأخذ يعالجه حتى نجا من مرضه، وكان الشتاء على الأبواب، وأخته راغبة في بقائه لديها حتى ينتهي البرد، فرجت منه أن يقضي الشتاء في جو منف الدافئ، ولم يجد في ذلك بأسا فبقي، وأرسل مجاوره بطرس البحريني في طلب بعض كتبه؛ ليعيش في جوه الذي يستمد منه الحياة والرغد.

أما الحارث المسكين فلازمته العلة مدة ما، فلما أبل انقطع عن لقاء النضر، وإذ لقيه هذا لم يقع له لسان على لسان، وكان النضر يعلم أن أباه يتهمه بأنه سبب ما وقع كله، وأنه قطع بينه وبين أحبابه جميعا، وأسلمه إلى الوحدة والشقوة والآلام، فعمل من ناحيته على ألا يلقى أباه، وكان يقضي يومه بين شياطينه أعداء رسول الله؛ ليدبروا للمسلمين كيدا بعد كيد، وأخيرا رأى الحارث أن بقاءه في مكة مضن له، فأرسل غلامه زيادا؛ ليعد له مسكنا في جدة، وانتقل إليها بما بقي له من الدنيا: كتبه وأضابيره، وأخذ يشتغل بوضع كتاب عن العلل ودوائها، وقلما كان يخرج من داره إلا للاستراضة أو لرد زيارة؛ على أنه كان كلما ذهب إلى شاطئ البحر ورأى الماء يخط أمامه من الجنوب إلى الشمال طريقا واسعا ، ويرى السفن قادمة من مصر أو ذاهبة إليها - حدثته النفس أن يستقل إحداها على الفور إلى برنيس

2

أو عيذاب؛ ليلحق بامرأته وابنته في الإسكندرية لينعم بجوارهما حيا وميتا، ولكن عزة نفسه كانت تتغلب على هواه فيدير ظهره إلى البحر؛ لكيلا تستمر السفن في إغوائه، ويعود إلى بيته حزينا يردد زفرات الهم والأسى على أنه كان كثيرا ما يسائل نفسه كيف تعود هرميون باختيارها إلى الإسكندرية بلد الثورات والمذابح والحصار والنار، وهي تعلم أن الفرس قد يجيئون مصر، وأنهم لا يرحمون صغيرا، ولا يرعون امرأة ولا شيخا؟ بل كيف تجرؤ هرميون أن تركب البحر وتخترق الصحراء بابنتها، والبحر محفوف بالمكاره، والصحراء غاصة بالأشرار؟ ولم يكن الحارث ليجد في قلبه بالرغم مما أودعت خطابها إليه عن المعاذير، أثارة من عفو؛ لأنه كان يرى في عملها هذا الجريء تعريضا بكرامتها وشرفها وحياتها هي وابنته، ولكم مرة هم أن يدعو عليها بما فعلت، ولكنه لم يكن يجد على لسانه قولا ولا في فؤاده معنى؛ لأنه كان في قرارة عقله يجد أنها صدرت في ذلك عن يأس وإيثار منها لشر أهون من شر، ولذلك كان يعود إلى داره وقلبه محزون، ولسانه يتمتم بألفاظ يدعو بها على النضر لا عليها، ثم يتمثل لمياء بهجة قلبه التي كانت تقبله كل صباح ويقبلها، ويشم في جوارها عبق السعادة، فيحن إليها حنينا يقض مضجعه، ولا يجد له تنفيسا إلا بلومها على مطاوعتها أمها في الفرار بها، وعد ذلك عقوقا له. ثم يتبين حقيقة حالها فيقصر، وهكذا كان يقضي أوقات خلوته في ذلك يغالب نفسه جاءته رسالة من هرميون احتال أهل القصر في منف على إيصالها إليه. ذلك أنهم أرسلوها إلى حاكم عيذاب مع أحد رجالهم الكثيرين الذين يسيرون في أعمال الحكومة بين مصر وعيذاب، وهناك تولى حاكم المرفأ إرسال الرسالة مع أحد أرباب السفن الماخرة بخيرات مصر ومصنوعاتها إلى مواني الحجاز والحبشة واليمن، وكلفه أن يتدبر في إرسالها إلى الحارث بن كلدة في مكة. فلما وصل الربان إلى جدة ، وأخذ يبحث عن راحل إلى مكة؛ ليسلم الحارث الرسالة - علم أنه مقيم في جده، فذهب بنفسه إليه وأسلمه إياها بيده.

كانت الرسالة طيبة العبارة في مطلعها، ضمنتها هرميون أشواقها والمحبة منها ومن لمياء، والاعتذار إليه مما فعلت، وأنها لم تلق في الطريق إلا الإكرام، وأن الدنيا في مصر هادئة، ودعته إليها، وكانت الرسالة طويلة فكان سرور قلبه بتلاوة صدورها ظاهرا على وجهه، ولكنه ما توسطها حتى اربد وجهه، وبدا على فمه الهلع؛ لأن هرميون تخبره خبرا لم يرتح إليه ذلك أن عمتها خطبت لمياء لابنها الأصغر دميان أحد ضباط حصن بابليون، نعم إنه يعقوبي وهي رومية، ولكنها ستجري مراسم الزواج كما جرت في زواج عمتها من الحاكم. فقد كانت رومية المذهب وهو يعقوبي، ولكن أهل الكنيسة لم يعجزوا عن التوفيق وتحقيق القصد، ولاسيما لأن فيه اكتسابا للمذهب، وأضافت إلى ذلك أنها مع ذلك أرجأت تنفيذ رغبة عمتها حتى يرد منه جواب الرضا. نعم إنها تملك تزويجها بغير استشارته الاضطراب والعراك، حتى إذا انقضى عليه ثلاثة أشهر في جده، وهو عملا بما اتفقا عليه منذ مولدها، ولكنها لم تجد أن تغمط حق الأبوة في زواج ابنتها كما أنكر حق الأمومة حين ود ولده أن ينزلها منزلة العجماوات بتزويجها من ذلك المكي المتبربر الذي شاء أن يجعلها إحدى زوجاته.

دارت الأرض بالحارث دورتها لدن هذا النبأ؛ لأنه أوضح له سوء حاله إيضاحا جمع عليه كل هم. رأى أنه مقطوع عن دنياه وعن ولده وزوجه، وأنه قد أصبح يقضي في أموره كأنه من سقط الأشياء. نعم، إنها تستشيره، وتعلق تحقيق رجاء العمة على قبوله، ولكنه شعر أن الأمر مجاملة واستشارة لا تعليق صحيح، وأنها لن تتردد في زف ابنتها إلى قريبها حتى ولو رفض، وشعر أنه أصبح محروما حتى من أن يحسن إلى ابنته. نعم، إن له أملاكا في الإسكندرية ومريوط بعضها مما أقطعه إياه الوالي تيودور بن ميناس حاكم الإسكندرية جزاء أن شفاه من علته التي أعجزت فطاحل أطباء الروم في الإسكندرية الأسبق، وكان إقطاعه إياها تدبيرا منه؛ لإبقائه في مصر، وحقا إنه كان له في ذمة دير الهانطون

3

أموال أقرضهم إياها عندما احتاجوا إلى المال؛ لترميمه إثر ما أنزل به بونوسوس ذات مرة من الهدم والتدمير، وأنهم لهذا قد نزلوا له عن قطعة من السوق بجوار كنيسة الإنجيلون اليعقوبية يستغل إيرادها لنفسه، وإن كان قوزمان وكيله عليها وعلى غيرها بل وكيل ابنته؛ لأنهم اشترطوا عند تزويجه من هرميون أن يكون ريع أملاكه في بلاد مصر وقفا عليها وعلى أولاده منها في غيبته أو وفاته، ولكن بر الوالد وعطفه ونظرة الحب منه كانت في نظره البر والإكرام، لا بر مثله ولا كرام سواه.

Shafi da ba'a sani ba