114

بعد هذا إني وحقك لأستحي من نفسي كلما أخرجتها من رحلي، وأخذت أدعو لها وأصلي. وقال الثاني: وأنا والله يا مسعد، لا أدري لماذا نعبد مناة إذ كنا لا ندعو إلا الله ولا نقسم إلا بالله! ألا ترى هذا عجبا! لا والله، ما عدت أعبدها! ثم هب الرجل من مجلسه، وذهب إلى رحله وأخرج منه قطعة من الخشب على شكل عرائس الأطفال،

4

وأخرج مثلها من رحل صاحبه مسعد، وأتى بهما إلى ورقة يقول: هذا يا سيدي ما يحملوننا على عبادته. أرأيت أشد جهلا من هذا؟ أنا راميها عن يميني. ألا ترى ذلك يا مسعد؟ قال: بلى. قال ورقة: أعطوي إياهما فأخذهما، وكان الغلام قد أتى براوية كبيرة من اللبن، فناداه ورقة، وقال: خذ هذين الإلهين القبيحين واجعلهما في النار، سخن بهما اللبن. هذا كل فائدتهما! أحرقهما كما سيحترق من يعبدونهما بالنار في الآخرة، ولنار الآخرة أشد وأنكى.

تردد الغلام في أخذ الخشبتين منه، وقال له ورقة: ويحك يا غلام إياس! ألم يأتك نبأ إسلام مولاك؟ وأنه خلع اللات والعزى ومناة؟ قال: بلى. قال ورقة: ثم ألم تؤمن بمحمد بن عبد الله الذي صدق به اليهود قبل أن يدعوهم؛ لأنه مذكور في توراتهم، ومذكور في الإنجيل؟ قال: بلى. قال: فما هذا إذن؟ قال: لا أدري وحقك. أشعر برهبة. قال: لا بأس عليك. أشعل النار. ستزول رهبتك عما قريب، وضحك! ولكن مسعدا وصاحبه لم يضحكا؛ إذ كان بهما في الحقيقة شيء مما امتلك الفتى، ولكنهما لم يبدياه. ذلك بأنهما عاشا حياتهما يريان في هذه الخشبة من القوة والاقتدار على الأذى والشر ما لم يكن من السهل أن يقتلع بكلمة، ويمحى أثره فور تسليم بصواب، ولذلك أخذا يتساءلان عمن أسلم من يثرب فأخذ ورقة يذكرهم واحدا بعد واحد، حتى إذا ذكر اسم سويد بن الصامت، وكان معروفا في يثرب كلها بأنه الحكيم الرشيد الكامل - أقسما بالله لن يضع مناة في النار أحد غيرهما، وكانت النار قد أوقدت، فنهض كل منهما بإلهه الذي كان منذ ساعة عزيزا ومكرما فرماه محقرا في الرقيد، وأخذا ينظران إليهما وهما يشتعلان، ويسخنان اللبن في وعائه فوق الأثافي، وورقة يراقبهما ويضحك لما يبديان من آثار التشفي، وما يلوح على غلام إياس من الذعر. حتى رآه بعض أحوال تعجبه يدفع النار بمحراك في يده؛ ليقلب الإلهين في النار، فضحك ضحكة عالية لفتت إليه ثالوثهم، فنهض الرجلان عائدين إليه يقولان بعدا لمناة وعبادة مناة! خبرنا كيف نفعل لنكون مسلمين؟ قال: اشهدا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فشهدا. فقال: وأن محمدا عبده ورسوله، فنطقا بأن محمدا عبده ورسوله. عند ذلك نهض ورقة ونهضا معه فقبلهما واحدا بعد آخر وقبلاه كذلك ، ثم أمرهما أن ينصرفا ليملأا سقائيهما من ماء بئر عينها لهما كان قد رأى الناس عندها، وأعطاهما سقاءه ليملأاه له، وقال لهما: لا بد لكما من الوضوء والصلاة لله شكرا على الإيمان فارتاحا إلى ذلك، وذهبا ليحضرا الماء.

في تلك الأثناء كان الغلام الأشهلي قد جاء بماعون اللبن فوضعه بين يدي ورقة، ثم عاد ليأتي بجفنة من جوالقه، وكان ورقة قد شاهد في رحل الأمير طاسا من الخزف الجميل فنهض يستأذنه أن يأخذها؛ ليأتي له فيها بطعام، ولكنه وجده نائما فجاء بالطاس بغير استئذان، وجاء بسقائه كذلك، وغسل الطاس، وصب فيها شيئا من اللبن، وأخرج كسرة مما زوده به صديقه الأشهلي، ودخل على الأمير فوجده مغمض العين على حاله، ولكنه كان يتمتم بصلاة بالرومية، وينادي مريم أن تصونه في غربته من الأذى حتى تواريه التراب، ويشكرها على أن هيأت لها في سفرتها الطويلة كل هذه العناية وهذا الصون من قوم أغراب ليسوا من جنسها ولا دينها. ثم شرع جفنه فإذا هو يجد ورقة أمامه واللبن في يده فسره أن يراه، وامتلأ قلبه بالشكر لمريم على أن أجابت دعاءه. ثم استمر فيما كان فيه فشكر ورقة بالرومية، ودعا له، فرد ورقة شكره ودعاءه بالرومية كذلك، وطلب إليه أن يسمح له بإطعامه هذا اللبن.

وكأنما تنبه الأمير إلى أن ورقة يكمله بالرومية فسأله بها: أكنت تكلمني بالرومية يا فتى؟ قال: نعم. أعرفها من صغري. إن لي في الروم أهلا وأحبابا، وكان يتذكر لمياء وقتئذ وأمها، فعلا الوجد وجهه وشفتيه، ولكن الأمير لم يدرك من ذلك شيئا ولم يهمه، ولكنه رأى وسامة ورقة وما فيها من صباحة الخير وطيب القلب فعاد يشكر مريم على أنها أرسلت إليه من يأنس به، وينزل شيئا من الطمأنينة في قلبه، وإن لم يجد في مسلك اليثربيين إلا ما يستوجب الحمد لله طول الدهر على ما أنعم عليه بتوفيقه الجندي إلى مضربهما. قال ورقة: أتستطيع أن تنهض أيها الأمير؟ فابتسم الأمير وقال: أستطيع بألم شديد. قال ورقة: فاسمح لي أن أنهضك، ثم مد يده اليسرى وأنهضه ، فكان كمن ينهض طفلا؛ لأنه وجده صغير الجسم هزيلا، ثم قدم له طاس اللبن فتناولهما بين يديه، ووضع ورقة كسرة الخبز في حجره، وأخذ الأمير يشرب ويأكل قطعة الخبز وهو ملفف في ردائه، وورقة يتعجب من دقة يديه وصغر أصابعه، حتى إذا فرغت الطاس وأخذها ورقة عرض أن يأتيه بقدر آخر من اللبن، فأبى الأمير وقال: إن هذا اللبن أول ما أكل منذ غادر بيته في القدس، ولكنه لم يشته الطعام حتى نزل بهذا المكان، وكان هذا الآن لا قبله. فقال ورقة: علامة طيبة بإذن الله. قال الأمير: لقد رد الله إلي شيئا من العافية لمرآك، وإني لأرى العافية تسري في بدني كله؛ إذ وجدت أنك تعرف الرومية، وأن لك من أهلها أهلا وأحبابا. ثم طلب إليه أن يرقده فأرقده، وكان الرجلان قد عادا بالماء فاستأذن وخرج للقائهما، وسار بهما؛ ليعلمهما الوضوء، وتوضأ الأشهلي معهما، ثم أمهم ورقة، واتجه إلى بيت المقدس؛ إذ كانت قبلة المسلمين يومئذ، وطلب إليهم أن يقلدوه في لفظه وعمله؛ فنوى، واتجه وركع وسجد، وصلى ركعتي الشكر، وصنعوا مثله ونهضوا جميعا يحمدون الله على الهدى، والرجلان يشكران لورقة صنيعه، ويحمدان الله على اجتماعهما به. قال: هكذا تفعلون في كل ضحى وكل عصر وأنتم متوضئون، لا أسألكما على ذلك أجرا إلا أن تهدوا إخوانكم من موالي المدينة - خزرج وأوس - إلى ما اهتديتم إليه، وكان الرجلان قد اشتريا من سوق معان قطعة كبيرة من اللحم، فطرحاها في النار فوق قطع من حجر؛ لتنضج وفاحت رائحتها فجرى إليها أحدهما وقلبها، وجاء بها يقول: لقد سئمنا أكل اللبن في يومينا الماضيين، فجئنا بهذا. دعوا اللبن للأمير، ولنأكل نحن هذا. قال ورقة: لا بأس، وانصرفوا يأكلون جميعا باسم الله وهم يتحدثون بنعم الله عليهم، ويعدون ورقة أن ينشروا دين ابن عبد الله بين الموالي جميعا.

ولقد رأى الرجلان إذ طعما أن يذهبا لإطعام المطايا فيما حول معان من المروج، واقترح غلامه الأشهلي أن يفعل فعلهما، فأذن لهم في ذلك على ألا يعتدو على ملك أحد، فإن اعترضهم معترض فليدفعوا له حقه، وأمر الغلام أن يبادر بذلك عنه وعن رفيقيه، ويدفع لصاحب الغيضة مما بقي معه من الدراهم. فأجاب الغلام بالطاعة، وذهبوا جميعا في طلب الكلأ والماء للجمال.

الفصل الثاني والثلاثون

حديث الغار

جلس ورقة على أثر انصراف الجمالة متكئا على جوالقه في الخيمة يتأمل الدنيا، ويذكر ما مر بالبقاع التي هو فيها من أحداث الزمان، ويعجب لصنع الإنسان وتكالب الأمم. نظر إلى ما خلفته الحوادث من الآثار في معابد معان فذكر النبطيين الذين جعلوا من صحرائها جنة، ومن مضارب خيامها قصورا، وامتلكوا ما بين العراق وخليج القلزم (السويس) ودمشق، ويثرب كيف دالوا واختفوا حتى لم يعد يذكرهم أحد أو يعرف عنهم شيئا، حين أنهم كانوا سادة الأرض أبد قرون، وإليهم يرجع الفضل فيما نال الإسكندر الذي يسمى بالكبير من المجد الواسع والملك العظيم؛ إذ حالفهم واستعداهم ففتحوا له بجنودهم العراق وفارس والهند ومصر، وأقاموا بسيوفهم ملك ذلك الغلام المقدوني الذي لم يكن بلغ السابعة عشرة من العمر حين كان على رأس هذه الجيوش العربية وهي تغزو تلك الأقطار، ثم كان جزاؤهم بعد ذلك أن حاول خلفاؤه كسر شوكتهم، وتبديد دولتهم، فلما عجزوا عن تحقيق ذلك بالسيف حاولوا بالخديعة؛ فإذا دولتهم الزاهرة في الصحراء تعود في القرن الثاني من المسيح كما وجدوها، خرابا يبابا، فيما قبل المسيح ببضعة قرون.

Shafi da ba'a sani ba