109

هكذا كان ورقة يتخيل؛ لكثرة ما شاهد من الناس، وما سمع من الناس. فالعالم كانوا في نظره ذئابا صرحاء، لا يعرف الفضيلة منهم ولا يقول بها، ولا يميل إلى البر إلا من ضعف أو أضعف، فهو ذئب مستور ما إن يقوى حتى يتكشف، فإذا الفضيلة رياء، وإذا حب الخير احتيال.

ذكر أهل مكة كيف أنهم يناهضون رسول الله الذي أرسله الله بالحق والحكمة، والدواء لكل داء، ومع ذلك وجدهم يسفهون رأيه ويكذبونه، وهم يعلمون أن رأيه حكيم وأنه صادق، ولكنهم كانوا يقولون في أنفسهم: ماذا ينفعنا هذا الصدق إذا كان سيلزمنا العمل بالعدل والتساوي ، ويكون له الحق في الحكم على أفعالنا، والحد من حريتنا، وتقييد تصرفاتنا، والتسوية بين القوي منا والضعيف، والكبير من الناس والصغير، وحرمان الذئاب حق الفتك بالشياه! يجب علينا إذن أن نناهضه، وإذا استطعنا أن نقتله فلنقتله؛ لأننا إن تركناه يدعو إلى دينه فسيقوى ويقوي الضعفاء معه، ويسلب منا موارد الغنيمة، ولأننا إن سلمنا له بقوله فإنما نحن في الحقيقة ننضوي تحت لوائه، ونعطيه الزعامة علينا فيصبح ملكا حقيقيا، وإن لم يسم نفسه بذلك، وننقلب له رعايا وأتباعا. لا. لن نسلم بفقد مركزنا الأعلى باسم التسليم بأن الله واحد. الله واحد فعلا. كل القلوب تشعر بذلك، وليكن محمد رسوله، وليكن أن يترتب على ذلك تقليم أظافرنا وحت أنيابنا فلا، ثم لا، ثم لا ألف مرة، وعليه يجب أن نستمر ويستمر سائر العرب معنا على عبادة اللات والعزى ومناة ما أبقت هذه العبادة على أرزاقنا من ورائها، وعلى منزلتنا العالية في مكة والحجاز وبلاد الوثنية، ولو بقيت أمة العرب حطيطة الشأن في كل زمان. إنما الخير ما فاء علينا بخير، ونحن في بحبوحة من العيش ومتعة، فلماذا نعمل على تبديل الحال بما لا نعرف عاقبته علينا؟ بل العاقبة معروفة: زوال سلطتنا، وذهاب قوتنا. إذن فلنحتفظ بما نحن فيه، وندافع عنه، ونقتل من يحاول تغييره، وفيما هو يفكر كذلك وهو فوق الجبل سمع على بعد صياحا متداركا واردا مع الصبا، فالتفت صوب مورده، فإذا هو يرى طائفتين تقتتلان اقتتالا شديدا في مكان شمالي المدينة عند حلة تدعى بعاث، فأدرك من فوره أن الأوس وحلفاءها يقاتلون الخزرج وحلفاءها، على نحو ما كان سمع من استعدادهم، واعترته خجلة من أن ابن زرارة لم ينذره بشأنها، وقدر أنه كره أن يعلنه بيومها على أثر ما رأى منه من كره القتال عامدا في الصفوف، ولكنه مع ذلك لم يجد من المروءة ولا الشهامة أن يقعد عما كان وعد من معاونتهم بالقيام على الجرحى وحفظ الذخيرة فأبرك الشملالة، وركبها وجرى بها نحو بعاث فإذا هو يجد القتال شديدا ؛ هذا يكر ثم يفر، وذاك يصمد ثم يخترق الصفوف، والنقع فوق الرءوس كالضباب الكثيف لا يتبين فيه الحس إلا وميضا للسيوف حين تشرع وتوضع، وإلا أصوات الحقد والغل تعلو وتتضع، وإلا دماء تسيل على الرغام، ورءوسا تتدحرج بين الأقدام، وفيما هو يدنو من الموقعة رأى ثلاثة من الأوس يتعاورون رجلا بالسيوف، وكأنه كان قد جرح فهو يدافع عن نفسه دفاع اليائس، فلم يملك إلا أن ينيخ على عجل، ويهرع إلى صوت الجريح يحميه من الأذى، وامتشق حسام زيد بن حارثة، ونادى بأعلى صوته: يا رسول الله! وفيما كان أحد الثلاثة يهوي بذراعه على الجريح ليقتله كان ورقة قد أهوى ذراعه فقطعها، ثم اتجه إلى الثاني فإذا هو عملاق من بني قريظة كان كثيرا ما يراه في السوق يتحدث ويفاخر، فهابه ورقة وكاد يفر منه، لولا أنه وجد الرجل على ظاهر قوته لا يحسن المسايفة، وذكر باقوم إذ كان يقول له: لا عليك من طول الرجل وعرضه. أحسن المسايفة تجده أمامك صريعا. فسايف ورقة على نحو ما علمه باقوم، وداور الرجل وحاوره، ويامنه وياسره، وغته بالسيف غتة أحنقت عليه العملاق فأراد أن يرديه معه ورفع سيفه؛ ليطيح رأس ورقة، ولكنه عاجله من حسامه بضربة فصلت كفه عن معصمه، وطارت هي والسيف في الهواء، وخر الرجل على أثرها صريعا. هناك سمع الجريح من ورائه يدعو له ويثني عليه. فالتفت فإذا هو يرى مضيفه أسعد بن زرارة نفسه، وإذ هم بحمله والبعد به عن الحومة رأى فارسا يدنو منه، والشرر يتطاير من عينيه؛ لأنه كان قد سمع بما لقي العملاق، فجاء يثأر له، ولكن ورقة لم يمهله حتى يدوسه بسنابك جواده، ويعمل فيه سيفه بل تناول قبضة تلو قبضة من تراب الأرض وحصبائها، ورمى بها على الرجل فأعماه، ثم أهوى بالسيف على فخذه فهشم ركبته تهشيما، وكأنما كانت هذه الضربة فصل الخطاب. فقد اشتد الخزرج وبنو قينقاع على الأوس وقريظة وبني النضير؛ فولوا منهزمين نحو العريض من نجد، ولكنهم كانوا في فرارهم قد رموا بسهام على المتعقبين؛ ليردوهم عن اللحاق بهم، وأصاب أحد هذه السهام زعيم الخزرج في هذه الملحمة عمر بن النعمان البياضي فقتله لساعته، والأوس لا تعلم بذلك، وتعمد الخزرج إخفاء الحادث حتى يطمئنوا إلى النصر.

1

لم يكن بد بعد انتصار الخزرج من القضاء على الأوس وقريظة والنضير وتخريب دورهم، وسبي نسائهم على عادتهم في هذه الحروب، ولكنهم لم يمهلوا حتى يفعلوا ذلك، فقد كبر الأمر على حضير الركائب زعيم الأوس المنهزمين، وأراد أن يحمل قومه على معاودة القتال؛ فتناول رمحه وطعن نفسه وصاح: واعقراه! والله لا أبرح حتى أموت

1

فرجعت الأوس تحمي قائدها وهم في يأس من النصر، ولكن حدث حادث من رجل عرف في التاريخ بنفاقه، هو عبد الله بن سلول الخزرجي

2

كان من القاعدين عن الحرب نفاقا وخيانة لقومه، ولكنه مع ذلك خرج يتجسس ليرى وسيلة مغنم، وفيما هو يتجول رأى أربعة من الخزرج يحملون قائدهم القتيل في عباءة فشمت به، وقال له: ذق عاقبة البغي. ثم تناثر منه الخبر إلى الأوس فشدوا على الخزرج

2

وهزموهم ووضعت فيهم الأوس السلاح، ونادى حضير من مرقد موته أن ايتوا الخزرج قصرا قصرا، ودارا دارا، واهدموا حتى لا يبقى منهم أحد. فأخذوا في ذلك وأمعنوا،

Shafi da ba'a sani ba