Furanni na Tsinkaye
أزهار الشوك
Nau'ikan
فقال باسما: ثم أشرقت الأنوار فجأة!
وسلم على الأم والأب ثم انحنى إذ قدمه صاحبه إلى ضيف لم يره قبل ذلك اليوم، صدقي بك.
وكان صدقي فتى أنيقا ممتلئ الجسم تلوح النعمة في وجهه وهيئته وملبسه، وعرف فؤاد من حديثه أنه ابن عمة سعيد، قد ذهب إلى أوروبا ليدرس الاقتصاد في فرنسا حتى أوشك أن يبلغ غايته، ثم قامت الحرب فعاد مسرعا قبل أن يمتد لهيبها، إذ عرف أنها حرب مدمرة سوف تقف حركة العالم كله مدة سنين، وقال صدقي: إنه يقيم في الإسكندرية لم يبرحها منذ عاد من فرنسا، ولم يرض أن يهرب من الأخطار كما يهرب خفاف القلوب، وكان ما يزال ينتظر انتهاء الحرب وفتح طريق البحر حتى يعود لإتمام دراسته في فرنسا، فما كان مثله ليلجأ إلى إحدى كليات جامعتي مصر.
ورآه فؤاد من أول نظرة جميل الصورة رشيق العود، ولكنه على شيء من الزهو يشبه أن يكون دلالا، فذهب ليتخذ مجلسه إلى جنب سعيد في الركن الآخر الذي يقابل علية وصدقي.
وأحس فؤاد شيئا يشبه أن يكون خيبة وحنقا، فلم يلبث أن ضاق بذلك المجلس وود لو استطاع أن يفر منه هاربا، وكان سعيد يناجيه في حماسة ويصف له ما شهده هو وأهله في حياة الريف، وما كانوا يسمعونه كل يوم من أنباء خيالية عن الحرب يذيعها أهل القرى كأنها هبطت إليهم من السماء، وود فؤاد لو كان حديث المجلس مشتركا ليسمع ما تقول علية، ولكنها كانت منصرفة إلى صدقي تحدثه فلا تأتي من أحاديثها إلى أذنه إلا كلمات بين حين وحين في طي ضحكة مرحة فيها ذكر بعض الأسماء، لقد كانا يتحدثان عمن رأيا من الناس وهما ينظران إليهم من ركنهما وحدهما.
وزاد الانقباض في قلب فؤاد، فكان يمانع نفسه قسرا من توجيه نظراته الحانقة إلى ذلك الفتى الجديد الذي طلع عليه فجأة ليسلبه حقه في حديث علية، وآذن وقت العشاء فاجتمعت الحلقة على المائدة وقامت علية تخدم في محل أمها، وكان حديث المائدة مهذبا مرحا وزعته علية في براعة كأن ذلك فن من فنونها، واتجهت في أثناء ذلك إلى فؤاد ببعض لفتات أزالت عنه بعض قبضته الأولى، فلما فرغ من الطعام كاد يلوم نفسه على سوء ظنه وما ساوره من الضيق والحنق، وسأله سعيد أيحب أن يلقي نظرة على مرسمه، فوثب مرحبا ونظر إلى علية كأنه يسألها: أليست تلك فرصة لاستعادة ما سلف من الأحاديث؟ فقالت ضاحكة: لا تطعه يا فؤاد، فإنه سوف يصدع رأسك بالأحاديث عن صور ريفه.
فكانت صدمة أخرى شديدة أصابته، أنها تتحدث عن مناظر الريف بمثل هذه الزراية ولا تريد أن تذهب إلى المرسم معه ومع أخيها، وتؤثر البقاء حيث هي في البهو مع هذا الشاب؛ لتستأنف الحديث وضحكات السخرية معه عن أصحابه وصواحبها.
وخرج مع سعيد كئيبا إلى الحديقة ودخلا إلى المرسم وقد زاد باللوحات ازدحاما وفوضى، كانت لوحات جديدة تزاحم اللوحات التي وقع بصره من قبل عليها، وهي خليط من مناظر، بعضها رءوس أشخاص وبعضها صور حيوان أو مناظر أكواخ في الحقول، وقد مزج سعيد ألوانها في براعته المعتادة، وكانت كل لوحة تتحدث حديثا ناطقا: إنه سلام واطمئنان! وكانت صورة الزنجي المتسول ما تزال قائمة في الصدر، ولكن لوحات أخرى قامت دونها تحجبها، وأما صورة علية فقد انزوت في ركنها من البهو في جوار صورة الزنجي حتى كان من العسير على فؤاد أن يبصرها إلا إذا اندس بين الصور التي تحجبها، وأي تغير اعترى تلك الصورة عندما دخل في الفرجات بين اللوحات واستطاع أن يبصرها! لقد زالت نظرتها التي لمح فيها الهدوء والسلام من قبل، ورآها وهي تمسك بطرف ثوبها هابطة إلى الصخرة التي على شط البحر جريئة لا تبالي أن تقتحم الموج الثائر بثوبها الأبيض ونعليها الرقيقتين، ولم ير أثرا لتلك النظرة الخاشعة التي جعلته يشبهها بالراهبة المطمئنة، فلم يكن لها من الراهبة إلا ثيابها البيض، فأين ذهب ما رآه من قبل عندما وقعت عينه عليها أول مرة؟ أتبدلت الصورة كما يتبدل الناس أم كانت الصورة تبدو له كما يصوره له وهمه؟ ومع هذا فإنه قضى ساعة مع صاحبه في حديث متصل ليس فيه فتور، وكان سعيد كما عرفه فؤاد منذ صغره موطأ الأكناف ألوفا عطوفا، وأقبل سعيد في أثناء الحديث على لوحاته يرتبها ويعدل من أوضاعها، فاستأذنه فؤاد أن ينزل إلى الحديقة فيسير فيها وحده حينا، ونزل من المرسم وهو يحس كأن الفضاء الذي حوله يتقد حرا، ورأى علية عند ذلك خارجة من البهو فانحرف عنها كأنه لم يرها، واتجه إلى ركن بعيد من الحديقة، ولكنه سمع قدميها وهي تهبط على الدرج وتسير فوق الحصى المفروش في المماشي متجهة نحوه، وكانت الليلة قمراء والحديقة تبدو في غلالة من النور الرفيق، كانت الأغصان الباسقة تنطبع على صفحة السماء حالمة هادئة صامتة، وكانت الخمائل المزدهرة منثورة بين الأشجار كأنها أطفال تلوذ بأمهاتها في ليلة عرس، ومن تحتها بساط ممتد من العشب الأخضر تتلألأ عليه قطرات من الماء تبرق كلما سطع عليها الضوء، وسمع صوت علية من خلفه تناديه مرحة: أنت هنا؟
فالتفت إليها بقلب واجف وقال: إنها ليلة ساحرة.
فقالت ضاحكة: وما ينبغي أن تقضيها في المرسم الضيق، وأين سعيد؟
Shafi da ba'a sani ba