المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا ومولانا محمّد وآله
الحمد لله الذي أعلى مراتب العلماء الأعلام وزكى منهم العقول الراجحة والأحلام ومنحهم مآثر تقصر عن جمعها المحابر والأقلام ومفاخرات طارت كل مطار. وجعل معاليهم زاهرة زاهية وأضواء فهومهم نامية سامية وأنواء علومهم شامعة هامية وبواكف الأمطار وأطلعهم على حقائق الأسرار وهداهم وهدى بهم إلى ترتيب المدارك وتقريب المسالك وجلى بمشارق الأنوار من معارفهم وآدابهم عمن تمسك بأذيالهم وأهدابهم غياهب الجهل الحوالك فأضاءت الأقطار. وعرفهم المقاصد الحسان والوسائل المغتبطة والإلماع بأصول الرواية والسماع والإعلام بحدود قواعد الإسلام وإرشادهم إلى التنبيهات المستنبطة السامية الأخطار حتى رفلوا من حلل التحقيق السابغة في مطارف وبرود وورود من منهال السائغة كل عذب
1 / 1
برود وتنسموا من حجج الحق البالغ الروض المعطار واتنوا أزهار أضحت منية الطالب وبغية الرائد واجتلوا جواهر نظمت منها الدرر والفرائد في أجياد السطار. فإن أمهم ناقص عديم ألفي لديهم الغنية والإكمال أو قصدهم عليل سقيم وجد في أيديهم الشفاء فنال غاية الآمال وظفر بمنتهى الأوطار. والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمّد أفضل العالمين بإطلاق سراج المريدين وكنز العارفين الذي لا يخشى معه إملاق عمدتنا العظمى ووسيلتنا الكبرى عند الملك الخلاق صاحب المعجزات الباهرة التي اهتدى بها ذوو الأفكار والآيات الظاهرة التي حصل بها التمييز لمن له استذكار الموطأ الأكناف والأخلاق المنتقي من أعظم الذخائر وأنفس الأعلاق المختار من قبل نشأة آدم والكون
1 / 2
لم تفتح له أغلاق ﷺ عليه وعلى آله وأصحابه الذين لنجومهم في سما الحق أتلاق صلاة وتسليما دائمين ما أنشئت في ثنائه الأحمدي وأنشئت بفنائه المحمدي القصائد والأبيات والأشطار وبعد:
فيقول أحمد ذو القصو ... رِ المقرى إذا انتسب
جبر المهيمن صدعة ... ووقاه سي ما أكتسب
وحباه منحة مؤمن ... محض العباد وأحتسب
وأسدي إليه من المواهب أسناها ومن العواقب حسناها.
إنه لمّا سبق القضاء وجرت الأقدار بارتحالي عن الوطن المحبوب والقرار بعد أن شممت عراره النجى ولا أشجان ولا أكدار في عشية لم يكن بعدها من عرار ونزحت عن بلد به الوالد وما ولد محل قطع التمائم وفتح الكمائم سقى الله عهاده صوب الغمائم:
بلد تحف به الرياض كأنه ... وجه جميل والرياض عذاره
1 / 3
وكأنما واديه معصم غادة ... ومن الجسور المحكمات سواره
وكان ذلك وغصن النشاط يانع وبرد الشباب قشيب وشمل النفس مجتمع دون مانع وكأس الأنس مزج بتسنيم القرب وشيب وفود الرأس غير خاضع ولا خانع إذ لم تطرق ساحته ولم تجس خلاله جيوش المشيب حللت الحضرة الفاسية حاطها الله حيث المجالس غاصة بالعامة والخاصة والمساجد آهلة معمورة والمشاهد بالزوار مغمورة والحل المعارف فضاضه والعوارف الجليلة مفاضه حضرة ديباجها ربيعي وامتزاجها بالنفوس طبيعي ولم لا وقد نظمت المفاخر ونسقتها وجمعت المآثر ووسقتها جادتها غر السحاب وسقتها:
بلاد بها الحصباء در وتربها ... عبير وأنفاس الرياح شمول
تسلسل منها ماؤها وهو مطلق ... وصح نسيم الروض وهو عليل
فألقيت بها عصا التساير وقاها الله من الآفات والأغاير وأقتفيت في ذلك سنن بعض سلفي الأخيار إذ كان أشهر أسلافنا الشيخ الإمام صاحب التصانيف الشهيرة التي اقتادت المحاسن بزمام القاضي الأشهر العلامة
1 / 4
الأظهر أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن أحمد المقري القرشي التلمساني النشأة والقبر أفاض الله سجال الرحمة على مثوى ذلك الحبر انتقل إليها أيام السلطان المرحوم أبى عنان فارس فولاه قضاء جماعتها وبنى له المتوكلية أعظم المدارس حسبما ذكره غير واحد من أهل الفهارس وأشار إليه الوزير أبن الخطيب في كتاب الإحاطة التي أحيت من التأريخ الرسم الدارس.
ولم تزل كتب الأقارب والإخوان ترد على وتثني عنان اعتنائها إلى وتكرر وتعدد وتنتاب وتتردد وتتنوع وتتجدد فأرتاح إليها ارتياح الغصن عند هزته وأحن إليها حنين كثير إلى معاهد عزته:
يا من يذكرني حديث أحبتي ... طاب الحديث بذكرهم ويطيب
اعد الحديث على من جنباته ... إنَّ الحديث عن الحبيب حبيب
وكثير ما يحرك ذلك منى كامن شوق شب عمره عن الطوق وأجد من لواعج الأوار ما وجده الفرزدق عند مباينة النوار:
1 / 5
بلد الجزائر ما أمر نواها ... كلف الفؤاد بحبها وهواها
يا عاذلي في حبها كن عاذري ... يكفيك منها ماؤها وهواها
والحنين إلى الوطن مجال لكل حر ومضمار:
إيه أحاديث نعمان وساكنه ... إنَّ الحديث عن الأحباب أسمار
وليس بمستنكر حنين الناب إلى عطنه والمرء إلى محل نشأته ووطنه.
وقد روينا في الصحيح من حنين سيد الوجود ﵊ وأصحابه إلى مكة ما لا يجهله إلاّ من هو عن العلوم بمعزل. ومن الأبيات السائرة:
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأول منزل
ورب ذكرى أثارت الأشواق وحركتها وأنشبت النفوس في حبائل البوس وتركتها وكم من ماجد بكى لفقد المشاهد وأهتم لبعد المعالم والمعاهد:
سلام على تلك المعاهد أنها ... مرتاع ألافى وعهد صحابي
ويا سرحة أنعمى فلطالما ... سكبت على مثواك ماء شبابي
فله تلك المعاهد ما أبهج محياها وحاط بعين كلاءته تلك المشاهد ما أطيب رياها حين باكرها الوسمى وحياها:
1 / 6
حيا تلمسان الحيا فربوعها ... صدف يجود بدره المكنون
ما شئت من فضل عميم إن سقى ... أروى ومن ليس بالممنون
أو شئت من دين إذا قدح الهدى ... اورى ودنيا لم تكن بالدون
ورد النسيم لها بنشر حديقة ... قد أزهرت أفنانها بفنون
وإذا الحبيبة أم يحيا أنجبت ... فلما الشفوف على عيون العون
طالما ذكرت الأبلة وشعب بوان ... وأنست صروف الزمان الخوان
وأنبتت أزهار أنس ذات ألوان وثمار نخل من القرب صنوان وغير صنوان والشمل مجتمع بالجيران والإخوان والروض مطلول النبات مخضر العذبات مخضل الجنبات مفوف الخمائل
1 / 7
متضوع الشمائل مساب الماء منجاب السماء والغصون متأودة الأعطاف دانية الجنى والقطاف والنسيم يعبق نشرا والجو يتألق رونقا وبشرا فتقصر عنه أوصاف دوى الأصناف:
والزهر حيانا بثغر باسم ... والنهر قابلنا بقلب صافي
ولآلئ الأنداء في الغدير غرقى ودموع النهر لا ترقا والزهر تسقط وأكف الريح تكتب والغمام ينقط:
كأن أكف الريح تكتب أسطرا ... على النهر إلاّ أن أحرفها زرق
فتحنى عليهن الغصون قدودها ... لتقرأها جهرا من الورق الورق
والورقاء تهتف لفقد إلف نازح فتهيج شجو الجاد والمازح:
رب ورقاء هتوف بالضحى ... ذات شجو صدحت في فنن
ذكرت إلفا ودهرا صالحا ... فبكت شجوا فهاجت حزنى
فبكائي ربما أراقها ... وبكاها ربما أرقني
فإذا تبدؤني أسعدها ... وإذا أبدؤها تسعدني
ولقد تبكى فما أفهمها ... ولقد أبكى فما تفهمني
غير أني بالشجا أعرفها ... وهي أيضًا بالشجا تعرفني
1 / 8
فأكرم بها من ذات طوق عبرت عما في ضميرها من جوى وسوق فساقت لواعج الأفكار أي سوق وبينها وبين الصب فرق عند ذوى الذوق:
وترنمت ذات الجناح بسحرة ... بالواديين فهيجت أشواقي
ورقا تعلمت البكا والبث من ... يعقوب والأحان من إسحاق
أني تضاهين هوى وصبابة ... وأسى وفرط جوى وفيض مآقى
وأنا الذي أملي الهوى من خاطري ... وهي التي تملي من الأوراق
فما كان أسرع من تمزيق ذلك الإهاب وحصول شمله في يد الانتهاب وأنشد لسان حاله عند الذهاب:
إلاّ إنَّ هذا الدهر يوم وليلة ... يكران من سبت عليك إلى سبت
فقل لجديد العيش لا بد من بلى ... وقل لاجتماع الشمل لا بد من شت
وهكذا الدنيا إحلاء وإمرار وإقرار وإنكار وإعلان وإسرار تعفى كل ربع عامر وتببد كل مأمور وآمر:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بعدما نعمنا برهة من الزمان في ظلال الأمان وقطعنا نبذة من
1 / 9
الشباب في مواطن الأحباب ما بين دراسة ودراية ورواية وممارسة أمور تبعد عن طرق الغواية وتحبير طروس وملازمة دروس بين يدي أشيخ مجالستهم نامية الغروس وخصوصا شيخهم الذي فضله لا يفترق إلى دلال عمنا فتينا سيدي سعيد أحمد المقري شكر الله خلاله فهو شيخ أولئك الأعلام الذين ورثوا العلم من غير كلاله وعمروا ربوع المجد وتفيوا ظلاله وأرشدوا إلى سبل الهدى وأزاحوا عن الضلالة وعمرت أرضهم بكل مجد وجلاله وإن نبت بي عن جفوة وملالة فآها على ذلك العصر ما أبهاه وأجمله وأتمه وأكمله عصر يكاد يكلمنا فيه الجماد وتروينا الثماد وتحيينا العشيات والبكر ولا تنتابنا التعلات ولا الفكر فإن سألنا فعنه في الحقيقة وإن صرحنا أو كنينا فنعنى حماه وعقيقه:
نسائل عن ثمامات بحزوى ... وبان الرمل يعلم ما عنينا
وقد كشف الغطا فما نبالي ... أصرحنا بذكرى أم كنينا
ولو إني أنادي يا سليمى ... لقالوا ما أردت سوى لبينى
إلاّ لله طيف كان يسقى ... بكاسات الكرى زورا ومينا
فأمسينا كأنا ما افترقنا ... وأصبحنا كأنا ما التقينا
وكنا نحسب الدهر لا يدور وأن الأعجاز صدور والأهلة بدور
1 / 10
حتى ضرب الدهر ضربانه، وبدد الرفيق وأبانه؛ فلم تتأود قدود الأغصان، ولم تترنح أعطاف ألبان؛ وانقطعت الأسباب عن مواصلة الجيران والأحباب؛ الذين:
جرى بعضهم ذات اليمين وبعضهم ... شمالًا وقلبي بينهم متوزعُ
فو الله ما أدرى بليل وقد مضت ... حمولهم أي الفريقين أتبعُ؟
وهأنا الآن أحاول إطفاء لهيب بالضلوع وقد، وأعالج أدواء سقم جل وكيف لا وقد:
روعت بالبين حتى ما أراع به ... وبالمصائب في أهلي وجيراني
لم يترك الدهر لي علقًا أضم به ... إلاّ رماه بفقد أو بهجرانِ
وفي هذا التاريخ الغريب وردت كتب من تلك الناحية حركت شجو الغريب؛ والشوق إلى لقائهم، والتوق إلى ما يرد من تلقائهم، يقتادان القلب بزمام فينقاد، ويوقدان نار الوجد بين الضلوع أي إقاد:
هي الدار لا أصحو بها علاقة ... لأمر لنا بين الجوانح مضمرِ
فجاء على أرجائها الغيث أنها ... منازل جيران كرام ومعشرِ
وكان من جملة فصولها، وفروع اصلها؛ طلب التعريف والإلمام، ببعض أحوال الشيخ الإمام، قاضي الأئمة وعلم الأعلام، عمدة أرباب المحابر والأقلام، ومفخر علماء الإسلام ذى الفضائل التي استقلت رسومها، فلم تحتج إلى إعمال
1 / 11
العلام؛ والمحاسن التي بهرت أقمارا وشموسا سيدي أبي الفضل عياض أبن موسى؛ الشهير الصيت في كل قطر، صب الله على مثواه من الرحمات شآبيب القطر:
فهو الإمام الذي سارت مآثره ... في الشرق والغرب سير الشمس والقمرِ
وكم له من تآليف قد اشتهرت ... بكل قطر فسل تنبيك عن خبرِ
فقالت: نالي بهذا الأمر يدان، ولو أيدني كل قاص ودان؛ وماذا عسى أن اصف من جلالة يتهلل بشرها، وجزالة يتضوع نشرها؛ وبلاغة تبذ بلاغة سحبان، وبراعة تقاعس عن رتبتها الشيب والشبان، وعلم أظهر غوامض الحقائق وأبان، وحلم أرسخ من رضوى وأبان. ومحاسن، ماؤها غير آسن، وحلى، حازت مراتب العلى، ومصنفات، مقرطات مشنفات، أعلاق لا تعدلها الأثمان، ولا تشد على مثلها الأيمان.
على إني لست من رجال هذا المجال ولا من فرسان ميدان الإحسان؛ إذ الباع قصير، والعقل بقواعد العلم غير بصير؛ والقلب حليف أشجان وأوصاب، والفكر أليف غصص تجرع منها جنى حنظل أو صاب؛
1 / 12
لا أستطيع إنشاء قول، ولا أفكر إلاّ في هم أو هول؛ إلى ما دهم من الفتن، التي محت ما بالدهر من ازديان؛ وطرق من المحن، التي يغنى عن خبرها العيان؛ فتنوعت منها الأعداد، إلى أفراد وأزواج، وكثر الترداد، من الخطوب ذات الجموع والأفواج؛ وتفاقم وازداد، هول بحورها المتلاطمة الأمواج:
ملنا من الأيام ما لا نطيقه ... كما حمل العظم الكسية العصائبا
وعصر رجوعنا منه إبداء منحة ... فأندى ولكن محنة ومصائبا
وما حال من قرت المصائب عيونه دموعا وجوانحه جوى، ورمته النوائب عن قسى النوى؛ فخلع على الكواكب كراه، وبرح به الشوق وبراه. وقطع ودج صبره وفراه، واعتراه من الدهر ما اعتراه، وضاعف ما به كذب حاسد افتراه؛ يأكل المحاسن، ويجهل بمساويه أن يحاسن؛ ويعيد الحق باطلا، والحلى عاطلا؛ ويقلب النحة محنة، ويرى المصافاة إحنة؛ يخاتل مخاتلة الذيب، ويكدر مناهل الخلوص والتهذيب، ويقابل الحق
1 / 13
الواضح بالتكذيب؛ ويشتغل بما لا يعنيه، ويعرض عما يقربه إلى ربه ويزلفه ويدنيه:
لي حيلة فيمن ينم ... وليس للكذاب حيله
من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليلة
إلى الله المشتكى من هذا وأضرابه، ممن لم تصف موارد شرابه:
مضت أعمارنا ومضت سنونا ... ولم تظفر بذى ثقة يدانِ
وجربنا الزمان فلم يفدنا ... سوى التخويف من أهل الزمانِ
ولا غرو أن كان لأهل الزمان اشباه، ولله بعض أهل الذكاء والتيقظ والانتباه:
والناس مثل زمانهم ... قدوا الحذاء على مثله
ورجال دهرك مثل ده ... رك في تقلبه وحاله
ولذا إذا فسد الزما ... ن جرى الفساد على رجاله
أستغفر الله، هذه نفثة مصدور ذي المثل، أو هفوة مغمور ساعدها طغيان القلم:
نذم زمانًا ما له من جناية ... ونشكوه لو تغنى عن المرء شكواه
ولا ذنب فينا للزمان وإنّما ... جنينا فعوقبنا بما د جنيناه
هو القدر الجاري على الكره والرضا ... فصبرًا وتسليما لمّا قدر الله
ونفوسنا أولى باللوم لو سلكنا سبيل خيار القوم؛ واقتفينا سنن التقوى، وتمسكنا بحبل التوفيق الأقوى:
1 / 14
وما دارنا إلاّ موات لو أننا ... نفكر والأخرى هي الحيوانُ
شربنا بها عزًا بهمنٍ جهالةً ... وشتان عزٌ للفتى وهوانُ
وحق لمن علم تقلبات الدهر بأهله وتصرفاته، أن يستعمل ما بقى من عمره فيما يوصله إلى منازل النعيم المقيم وغرفاته:
للدهر قوس لا تزال سهامها ... تصمى الأنام أصاغرًا وأكابرا
طوبى لمن هجر القبيح ولم يكن ... إلاّ على فعل الجميل مثابرا
جعلنا الله ممن ثابر على فعل الجميل، وبلغ من خير الدارين غاية التأمل.
وين ورد علي هذا الخطاب الذي تقدم، وألفى ركن الاصطبار كاد يتهدم أو تهدم؛ أضربت عن جوابه حينا من الدهر، وما طلت مقتضى دينه من يوم إلى يوم، ومن شهر إلى شهر؛ والأرض تميد اضطرابا واختلالا، والأحوال تزيد دنفا واعتلالا؛ وأنا أحوم على مناهل الجواب حوما، وأروم الورود في مشاربها العذبة يوما فيوما؛ والأيام لا تسمح بنهله، ولا تفسح إليها فسحة ولا توسعها مهله؛ ثم وقع العزم والتصميم على جواب هذا السائل، راجيا من الله سبحانه أن يكون ذلك من أفضل القرب وأعظم الوسائل؛ ودخلت من هذا الباب بعد أن قرعت، وأخذت في هذا الغرض وشرعت، وشربت من ماء التصنيف وكرعت، وبذرت في أرض التأليف وزرعت، هذا مع إني ما مهرت ولا برعت؛ ولا أتقنت لصناعة التأليف عملا:
لكن قدرة مثلي غير خلفية ... والنمل يعذر في القدر الذي حملا
وكثيرا ما خرجت من الشيء إلى ما يناسبه ويدانيه؛ وربما أبعت
1 / 15
النجعة، ثم وقعت الأوبة والرجعة على رغم أنف قالي ذلك وشانيه وقربت بذلك كله شاسعا كي تسهل مئونته على معانيه وهصرت أفنان ألفاظه ومعانيه ليقرب اقتطاف لجانيه وسميته بأزهار الرياض في أخبار عياض وما يناسبها مما يحصل به ارتياح وارتياض تسمية وافقت إن شاء الله معناه وناسبت منزله ومغناه لأنه جمع أزهار ذات ألوان من ورد وأقحوان وبهار عرفه ذو انتشار ومنثور روضه مريع ممطور ونسرين يفوق أرجه مسك دارين وآيس عاطر الأنفس وشقيق خليق بالمدح حقيق ونيلوفر حاز من المحاسن النصيب الأوفر وأجريت جداول أنهار من الحكايات لسقي هذه الأزهار فأينع النوار وتألقت الأنوار وتفنن الناظر بين أنجاد وأغوار ولم يدر وقد انتقل من أطوار إلى أطوار وتأمل صرحا بني على غير شفا جرف هار:
أضياء هدى أم ضياء نهار ... وشذا المحامد أم شذا الأزهار
1 / 16
وقد أفصح ترجمان التراجم عن عدها وسردها ولوح لنكته الاختتام بنيل وفرها والافتتاح بوردها.
وهي هذه الترجمة: الأولى: روضة الورد في أولية هذا العالم الفرد.
الثانية: روضة الأقحوان في ذكر حالة المنشأ والعنفوان.
الثالثة: روضة البهار في ذكر جملة من شيوخه الذين فضلهم أظهر من شمس النهار.
الرابعة: روضة المنثور في بعض ماله من منظوم ومنثور.
الخامسة: روضة النسرين في تصانيفه العديمة النظير والقرين.
السادسة: روضة الآس في وفاته وما قابله الدهر الذي ليس لجرحه من آس.
السابعة: روضة الشقيق في جمل من فوائده ولمع من فرائده المنظومة نظم الدر العقيق.
الثامنة: روضة النيلوفر في ثناء الناس عليه وذكر بعض مناقبه التي هي أعطر من المسك الأذفر.
فدونك أيّها الناظر روضات أزهار وجنات تجري من تحتها الأنهار ابوابها ثمانية وقطوفها دانية تعطر منها نسيم الصبا بزهر الآداب وسما إلى
1 / 17
محاسنها من تعلق من التاريخ بأهداب لم أسبق إلى مثلها فما رأيت وإن بعدت فيها عن المهيع المطروق ونأيت والإنسان مغرم ببنيات أفكاره وإن قوبل ما صدر منه بإنكار وقد أنشدت بلسان حالها مخاطية من رضى بانتسابها وانتحالها:
سرح جفونك في الحدا ... ئق وأجن أزهار الرياض
من ورد أحمر أو شقا ... ئق أو بهار ذي بياض
وأشرب بكاسات الرفا ... ئق من عيون أو حياض
وأنظر مناقب ذي الحقا ... ئق عالم الدنيا عياض
واركع بماء التعريف زلالا وأدر كأس التشريف حلالا وأرو من هذا النهر واقطف ما شئت من أصناف الزهر وأخطر هذه الروضة ببالك وأدر إليها وجه قبولك وإقبالك فمؤلفها وإن لم يكن بمصيب ولا ممن له في الإجادة حظ وافر ولا نصيب فمن ألفيت فيه تحسن بإحسان وتنال المرعى الخصيب:
سلام مثل عرف المسك طيبا ... وحسنا مثل أزهار الرياض
على لفظ الجلالة والمعالي ... إمام الدين والدنيا عياض
إذا ما قيس بالعلماء طرا ... غدا بحرا وأضحوا كالحياض
1 / 18
وكنت حين شرعت في هذا المجموع السامي وأطلعت على بعضه صاحبنا الفقيه العلامة الأصيل الحاج الرحال أبا الحسن سيدي علي بن أحمد الخزرجي الشامي حفظ الله كماله وبلغه آماله خاطبني بقصيدة من نظمه أسماها الله ألم فيها بذكر هذا الموضوع بما يقتضيه شرف خلاله وكرم جلاله وأشار فيه إلى نقص العزم الرحلة التي نويت إذ ذاك للمكان الشريف لا حرمنا الله من مشاهدته عن قرب في حفظ وعافية بمنة ويمنة. وهي هذه وأنشدنيها من لفظه وكتبها بخطه وأرسلها إلي شكر الله صنيعه:
أمفتي الغرب أبدعتم طرازا ... نثرتم فيه أزهار الرياض
ونظمتم عقودا من لآل ... لجيد حلي المآثر من عياض
وأورقتم غصون علاه لمّا ... سقاها فكرم سقي الحياض
ونمقتم مطارف ما رأينا ... كطرتهم سوادا في بياض
وناديتم عقائلها فذلت ... شوامسها إليكم باتياض
وأسستم من الآثار طرا ... قواعد لا تساوم بانتقاض
لك التبريز في العلياء فاقض ... على علمائها ما أنت قاضي
1 / 19
تبديتم بها بدرا وحزتم ... خصال سباقكم دون اعتراض
نعتم بالكمال بغير عطف ... وكلهم بذلك النعت راضي
وما وفوا بحقكم ولكن ... يؤدي البعض من بعض افتراض
بعلمكم شفيتم أرض غرب ... وكانت ذات أحشاء مراض
ولمّا أن بدا منكم فراق ... توقعت أن يؤل إلى انقراض
وأنّ نجومها بالبعد يخشى ... عليها من سقوط وأنقضاض
فأرسل شافعا خل حشاه ... بهذا البعد أمست في انفضاض
يذكركم ليالي نيرات ... بأنسكم تنير دجى المضاض
يود الطرف يجعلها اكتحالا ... مكان سواده دون اغماض
بحق الله لا تبدي دجاها ... بغيبة بدركم بعد اتماض
ولا تمهل شفاعة مستهام ... صدوق الود في آت وماضي
ودم للدين والدنيا إماما ... وبحر هدى علومك في افتياض
يعم الأرض ما لاحت بدور ... وما فاحت أزهار في رياض
يكرع منه الملوك علا ونهلا ويضرع في الجواب فعلا لا قولا ويعيد السلام التام الزكي العام على المجلس العلمي ورحمه الله تعالى وبركاته.
انتهى ما كتب به صانه الله وأضفى عليه حلل المجد.
1 / 20