وكان الشيخ بهذا كله سعيدا وله مغتبطا وعلى تجديده حريصا. فلما جلست الأسرة للعشاء في تلك الليلة وجدد الشيخ أسئلته عن ابنه الفتى: ماذا يصنع في القاهرة؟ وماذا يقرأ من الكتب؟ قال الصبي في دهاء وخبث وكيد: إنه يزور قبور الأولياء، وينفق نهاره في قراءة «دلائل الخيرات».
ولم يكد الصبي ينطق بهذا الجواب حتى أغرقت الأسرة كلها في ضحك شديد شرق له الصغار بما كان في أفواههم من طعام وشراب، وكان الشيخ نفسه أسرعهم إلى الضحك وأشدهم إغراقا فيه.
وكذلك استحال نقد الصبي لأبيه في قراءته للدلائل والأوراد موضوعا للهو الأسرة وعبثها أعواما وأعواما. والظريف من هذا الأمر أن هذا النقد كان يحفظ الشيخ حقا، ويؤذيه في نفسه وفيما ورث من عادة واعتقاد. ولكن الشيخ على ذلك كان يدعو ابنه إلى هذا النقد ويغريه به، ويجد في هذا الألم لذة ومتاعا.
ومهما يكن من شيء فإن شذوذ الصبي لم يلبث أن تجاوز الدار إلى مجلس الشيخ قريبا منها، وإلى دكان الشيخ محمد عبد الواحد، وإلى المسجد حيث كان الشيخ محمد أبو أحمد رئيس الفقهاء في المدينة يقرئ القرآن للصبية والشباب، ويصلي بالناس في أثناء الأسبوع ويفقههم في دينهم أحيانا، وحيث كان الشيخ عطية - رجل من التجار الذين طلبوا العلم في الأزهر أعواما، ثم عادوا إلى الريف فاشتغلوا بأمور الدنيا ولم ينصرفوا عن أمور الدين - يجلس للناس بعد صلاة العصر من حين إلى حين، فيعظهم ويفقههم، وربما قرأ لهم شيئا من الحديث.
بل وصل شذوذ الصبي إلى المحكمة الشرعية، فسمعه القاضي وسمعه خاصة ذلك الشيخ الذي كان يكتب للقاضي، ويرى أنه أعلم من القاضي بالشرع، وأفقه منه بالدين، وأحق منه بالقضاء، لولا أنه لم يظفر بهذه الورقة التي تسمى درجة العالمية والتي تشترط لتولي منصب القضاء، والتي تنال بالجد والاجتهاد قليلا وبالحظ والتملق في أكثر الأحيان.
تسامع هؤلاء الناس جميعا بمقالات هذا الصبي وإنكاره لكثير مما يعرفون، واستهزائه بكرامات الأولياء، وتحريمه التوسل بهم وبالأنبياء، وقال بعضهم لبعض: إن هذا الصبي ضال مضل، قد ذهب إلى القاهرة فسمع مقالات الشيخ محمد عبده الضارة وآراءه الفاسدة المفسدة، ثم عاد بها إلى المدينة ليضلل الناس.
وربما سعى بعضهم إلى مجلس الشيخ وأصحابه قريبا من الدار وطلبوا إلى الشيخ أن يريهم ابنه ذلك الشاذ الغريب، فيقبل الشيخ هادئا باسما حتى يدخل الدار، فيرى ابنه آخذا في اللعب أو الحديث مع أخواته، فيأخذه بيده في رفق ويقوده إلى مجلسه؛ فإذا سلم على القادمين أجلسه، ثم أخذ بعض القادمين في التحدث إليه رفيقا أول الأمر، فإذا اتصل الحديث ذهب الرفق وقام مقامه الحوار العنيف. وكثيرا ما كان محاور الصبي ينصرف غاضبا متحرجا يستغفر الله من الذنب العظيم، ويستعيذ به من الشيطان الرجيم.
وكان الشيخ وأصحابه من الذين لم يدرسوا في الأزهر ولم يتفقهوا في الدين يرضون عن هذه الخصومات ويعجبون بها، ويبتهجون لهذا الصراع الذي كانوا يشهدونه بين هذا الصبي الناشئ وهؤلاء الشيوخ الشيب.
وكان أبو الصبي أشدهم غبطة وسرورا، ومع أنه لم يصدق قط أن التوسل بالأولياء والأنبياء حرام، ولم يطمئن قط إلى عجز الأولياء عن إحداث الكرامات، ولم يساير قط ابنه فيما كان يقول من تلك المقالات، فقد كان يحب أن يرى ابنه محاورا مخاصما ظاهرا على محاوريه ومخاصميه، وكان يتعصب لابنه تعصبا شديدا.
وكان يسمع ويحفظ ما كان الناس يتحدثون به ويخترعونه أحيانا من أمر هذا الصبي الغريب، ثم يعود مع الظهر أو مع المساء فيعيد ذلك كله على زوجته راضيا حينا وساخطا حينا آخر.
Shafi da ba'a sani ba