وقد استقر إذن في نفس الصبي أنه ما زال، كما كان قبل رحلته إلى القاهرة ، قليل الخطر ضئيل الشأن لا يستحق عناية به ولا سؤالا عنه، فآذى ذلك غروره، وقد كان غروره شديدا، وزاده ذلك إمعانا في الصمت وعكوفا على نفسه وانصرافا إليها.
ولكنه لم يكد يقضي أياما بين أسرته وأهل قريته حتى غير رأي الناس فيه ولفتهم إليه، لا لفت عطف ومودة، ولكن لفت إنكار وإعراض وازورار؛ فقد احتمل من أهل القرية ما كان يحتمل قديما يوما ويوما وأياما، ولكنه لم يطق على ذلك صبرا، وإذا هو ينبو على ما كان يألف، وينكر ما كان يعرف، ويتمرد على من كان يظهر لهم الإذعان والخضوع. كان صادقا في ذلك أول الأمر، فلما أحس الإنكار والازورار والمقاومة، تكلف وعاند وغلا في الشذوذ، سمع «سيدنا» يتحدث إلى أمه ببعض أحاديثه في العلم والدين، وببعض تمجيده لحفظة القرآن وحملة كتاب الله، فأنكر عليه حديثه ورد عليه قوله، ولم يتحرج من أن يقول: هذا كلام فارغ، فغضب «سيدنا» وشتمه، وزعم أنه لم يتعلم في القاهرة إلا سوء الخلق، وأنه أضاع في القاهرة تربيته الصالحة.
وغضبت أمه وزجرته، واعتذرت إلى «سيدنا» وقصت الأمر على الشيخ حين عاد فصلى المغرب وجلس للعشاء، فهز رأسه وضحك ضحكة سريعة في ازدراء للقصة كلها وشماتة «بسيدنا»؛ فلم يكن يحب «سيدنا» ولا يعطف عليه.
ولو وقف الأمر عند هذا الحد لاستقامت الأمور، ولكن صاحبنا سمع أباه يقرأ «دلائل الخيرات» كما كان يفعل دائما إذا فرغ من صلاة الصبح أو من صلاة العصر، فرفع كتفيه وهز رأسه ثم ضحك، ثم قال لإخوته: إن قراءة «الدلائل» عبث لا غناء فيه.
فأما الصغار من إخوته وأخواته فلم يفهموا عنه ولم يلتفتوا إليه، ولكن أخته الكبرى زجرته زجرا عنيفا ورفعت بهذا الزجر صوتها، فسمعها الشيخ ولم يقطع قراءته، ولكنه مضى فيها حتى أتمها، ثم أقبل على الصبي هادئا باسما يسأله ماذا كان يقول؟ فأعاد الصبي قوله، فلما سمعه الشيخ هز رأسه وضحك ضحكة قصيرة وقال لابنه في ازدراء: «ما أنت وذاك! هذا ما تعلمته في الأزهر!» فغضب الصبي وقال لأبيه: «نعم، وتعلمت في الأزهر أن كثيرا مما تقرؤه في هذا الكتاب حرام يضر ولا ينفع؛ فما ينبغي أن يتوسل إنسان بالأنبياء ولا بالأولياء، وما ينبغي أن يكون بين الله وبين الناس واسطة، وإنما هذا لون من الوثنية.»
هنالك غضب الشيخ غضبا شديدا، ولكنه كظم غضبه واحتفظ بابتسامه وقال فأضحك الأسرة كلها: «اخرس قطع الله لسانك، لا تعد إلى هذا الكلام، وإني أقسم لئن فعلت لأمسكنك في القرية، ولأقطعنك عن الأزهر، ولأجعلنك فقيها تقرأ القرآن في المآتم والبيوت.» ثم انصرف، وتضاحكت الأسرة من حول الصبي، ولكن هذه القصة على قسوتها الساخرة لم تزد صاحبنا إلا عنادا وإصرارا.
وقد نسيها الشيخ بعد ساعات، وأقبل على عشائه ومن حوله أبناؤه وبناته كعادته، وجعل يسأل الصبي عن الشيخ الفتى ماذا يصنع في القاهرة؟ وماذا يقرأ من الكتب؟ وعلى من يختلف من الأساتذة؟
وكان الشيخ يجد لذة عظيمة في إلقاء هذه الأسئلة وفي الاستماع لأجوبتها. كان يلقيها على ابنه الشيخ الفتى إذا عاد إلى القرية، فيجيبه متكلفا أول مرة، فإذا أعيدت أعرض الفتى عن أبيه وبخل عليه بالجواب. ولم يكن أبوه ينكر ذلك منه جهرة، ولكنه كان يتأذى به ويشكو منه لزوجه إذا خلا إليها.
فأما الصبي فكان سمحا طيعا، لا يعرض عن أبيه ولا يمتنع عن إجابته، ولا يدركه السأم مهما تتكرر الأسئلة ومهما يكن موضوعها. وكان الشيخ من أجل ذلك يحب أن يسأله ويستمتع بالتحدث إليه في أثناء العشاء وأثناء الغداء، ولعله كان يعيد على صاحبه بعض ما كان ابنه يقص عليه من زيارات الشيخ الفتى للأستاذ الإمام وللشيخ بخيت، ومن اعتراض الشيخ الفتى على أساتذته في أثناء الدرس وإحراجه لهم، وردهم عليه بالعنف وبالشتم وبالضرب أحيانا.
وكان الصبي يشعر بلذة أبيه لهذه الأحاديث ورضاه عنها، فيتزيد ويتكثر ويخترع منها ما لم يكن، ويحفظ ذلك في نفسه ليقصه على أخيه إذا عاد إلى القاهرة.
Shafi da ba'a sani ba