كل هذا كان حقا، وكل هذا سمعه الصديقان من أولئك الطلاب الكبار، ولكنه لم يمنعهما من حضور الدرس والمواظبة عليه، ليقولا لأنفسهما إنهما يدرسان المنطق، وليقولا لأنفسهما إنهما يذهبان إلى الأزهر بعد صلاة المغرب ويعودان منه بعد صلاة العشاء، كما يفعل الطلاب الكبار المتقدمون.
وما أسرع ما انقضت السنة الأولى! وما أسرع ما ختمت دروس الفقه والنحو! وما أسرع ما دعي التلاميذ إلى التفرق ثم الرحيل إلى حيث ينفقون الصيف بين أهلهم في المدن والقرى! وما أشد ما كان الصبي يتشوق إلى هذه الإجازة ويتحرق حنينا إلى الريف!
ولكن الإجازة قد أقبلت، وإذا هو يريد أن يمتنع عن الرحيل وأن يبقى في القاهرة. أكان صادقا في هذا التمنع؟ أم كان متكلفا له؟ كان صادقا وكان متكلفا معا.
كان صادقا؛ لأنه أحب القاهرة وكلف بها وشق عليه فراقها وقد كره الرحيل دائما. وكان متكلفا؛ فقد كان أخوه يقضي أكثر إجازته في القاهرة، وكانت الأسرة تكبر منه ذلك وتراه آية جد واجتهاد، وكان يريد أن يصنع صنع أخيه، وأن يظن به ما كان يظن بأخيه، ولكن تمنعه لم يغن عنه شيئا، وها هو ذا يركب مع صاحبه عربة من عربات النقل ومعهما ثيابهما قد لفت في حزمتين وقد بلغا المحطة، وأخذت لهما تذكرتان ثم دفعتا إليهما، ثم وضعا في عربة مزدحمة من عربات الدرجة الثالثة، ثم تحرك القطار. ولم يكد يمضي قليلا ويبلغ محطة بعد القاهرة أو محطتين حتى نسي الصديقان أزهرهما وقاهرتهما وربعهما، ولم يذكرا إلا شيئا واحدا هو الريف، وما سيكون فيه من لذه ونعيم.
الفصل السادس عشر
وكانت العشاء قد صليت حين نزل الصبيان من القطار، فلم يجدا في المحطة أحدا، فأنكرا ذلك شيئا، ولكنهما وصلا إلى الدار، فإذا كل شيء كان يجري فيها كما كانت تجري الأمور في كل يوم؛ قد فرغت الأسرة من عشائها منذ وقت طويل، وأتم الشيخ صلاته ثم خرج كعادته فجلس مع أصحابه غير بعيد من الدار، وتناوم الصبية، وجعلت أختهم الصغرى تحملهم واحدا واحدا إلى مضاجعهم. واضطجعت أم الصبي على فراش من اللبد تحت السماء تستريح، والنوم يلم بها ثم يصرف عنها، ومن حولها بناتها قد جلسن يتحدثن كعادتهن في كل ليلة، حتى يقضي الشيخ سمره القصير ثم يعود إلى الدار، فتأوي الأسرة كلها إلى مضاجعها، ويشمل الدار سكون وهدوء لا يقطعهما إلا تنابح الكلاب وتصايح الديكة في داخل الدار وفي أطراف القرية.
فلما دخل الصبيان وجمت الأسرة لدخولهما ولم تكن قد أنبئت بعودتهما، فلم تعد لهما عشاء خاصا، ولم تنتظرهما بالعشاء المألوف، ولم ترسل أحدا لتلقيهما عند نزولهما من القطار.
وكذلك أضيع على الصبي ما كان يدير في نفسه من الأماني، وما كان يقدر من أنه سيستقبل كما كان يستقبل أخوه الشيخ في ابتهاج وحفاوة واستعداد عظيم. على أن أمه نهضت فقبلته، ونهضت إليه أخواته فضممنه إليهن. وقدم إليه وإلى صاحبه عشاء كعشائهما في القاهرة. وأقبل الشيخ فأعطى ابنه يده ليقبلها ثم سأله عن أخيه في القاهرة، وأوت الأسرة كلها إلى مضاجعها، ونام الصبي في مضجعه القديم، وهو يكتم في صدره كثيرا من الغيظ وكثيرا من خيبة الأمل أيضا.
ومضت الحياة بعد ذلك في الدار والقرية كما كانت تمضي قبل أن يذهب الصبي إلى القاهرة ويطلب العلم في الأزهر، كأنه لم يذهب إلى القاهرة ولم يجلس إلى العلماء ولم يدرس الفقه والنحو والمنطق والحديث. وإذا هو مضطر كما كان يضطر من قبل إلى أن يلقى «سيدنا» بالتحية والإكرام، ويقبل يده كما كان يفعل من قبل، ويسمع منه كلامه الفارغ الكثير كما كان يسمعه من قبل. وإذا هو مضطر إلى أن يذهب بين وقت وآخر إلى الكتاب لينفق الوقت، وإذا التلاميذ يلقونه كما كانوا يلقونه قديما، لا يكادون يشعرون بأنه غاب عنهم، ولا يكادون يسألونه عما رأى أو سمع في القاهرة، ولو قد سألوه لخبرهم بالكثير.
وأكثر من هذا كله أنه لم يقبل أحد من أهل القرية على الدار ليسلم على الصبي الشيخ بعد أن عاد إليها وقد غاب عنها سنة دراسية كاملة، وإنما كان يلقاه منهم هذا الرجل أو ذاك، فيلقي عليه في فتور وإعراض هذا السؤال: ها أنت ذا؟ أعدت من القاهرة؟ كيف أنت؟ ثم يلقي عليه هذا السؤال الآخر معنيا به رافعا به صوته: وكيف تركت أخاك الشيخ؟
Shafi da ba'a sani ba