والصبي في أثناء هذه المعركة الضاحكة خجل وجل، مضطرب النفس مضطرب حركة اليد، لا يحسن أن يقتطع لقمته، ولا يحسن أن يغمسها في الطبق، ولا يحسن أن يبلغ بها فمه، يخيل إلى نفسه أن عيون القوم جميعا تلحظه، وأن عين الشيخ خاصة ترمقه في خفية، فيزيده هذا اضطرابا، وإذا يده ترتعش، وإذا بالمرق يتقاطر على ثوبه، وهو يعرف ذلك ويألم له ولا يحسن أن يتقيه. وأكبر الظن؛ بل المحقق أن القوم كانوا في شغل عنه بأنفسهم، وآية ذلك أنهم يفكرون فيه ويلتفتون إليه ويحرضونه على أن يأكل ويقدمون إليه ما لا تبلغه يده، فلا يزيده ذلك إلا اضطرابا واختلاطا، وإذا هذه المعركة الضاحكة مصدر ألم لنفسه وحزن لقلبه، وكانت خليقة أن تسره وأن تضحكه، ولكنها إن آذته في أثناء الطعام فقد كانت تسره وتسليه، وتضطره أحيانا إلى أن يضحك وحده إذا خلا إلى نفسه بعد أن يشرب الجماعة شايهم وينتقلوا إلى حيث يدرسون أو يسمرون.
وكذلك أنفق هؤلاء الشباب أعواما طويلة مع هذا الشيخ. وشب الصبي في هذه الحياة الضاحكة بفضل الشيخ علي، على رغم ما كان يعترض طريقها من أسباب الألم والأسى.
ثم تفرقت الجماعة، وذهب كل من هؤلاء الشباب لوجهه، وتركوا الربع واستقروا في أطراف متباعدة من المدينة، وقلت زيارتهم للشيخ، ثم انقطعت، ثم تناسوه، ثم نسوه.
وفي ذات يوم حمل إلى أفراد هذه الجماعة نعي الشيخ، فحزنت قلوبهم ولم يبلغ الحزن عيونهم، ولم يرسم آياته على وجوههم، وأخبر المخبر الصادق أن آخر كلمة نطق بها الشيخ وهو يحتضر إنما كانت دعاءه لأخي الصبي.
فرحم الله عمي «الحاج علي»! لقد كان ظله على الصبي ثقيلا وإن ذكره ليملأ قلبه بعد ذلك رحمة وحنانا.
الفصل السابع
ولم يكن هؤلاء الشباب يستمدون فرحهم ومرحهم من ذلك الشيخ وحده، وإنما كان لفرحهم ومرحهم مصدر آخر في بعض الأحيان. ولكن فرحهم كان مقتصدا ومرحهم كان هادئا إذا جاءهم من هذا المصدر الآخر. كانوا يفرحون بمقدار، ويمرحون من وراء ستار، إذا لقوا صاحبهم ذاك الذي كان يسكن غرفة في أقصى الربع من يمين، كما كان الشيخ في أقصى الربع من شمال. وكان صاحب الغرفة اليمنى رجلا متوسط السن قد جاوز الأربعين من غير شك ولكنه لم يبلغ الخمسين. وكان طالب علم، وقد أنفق في الأزهر أكثر من عشرين سنة ولم يظفر بدرجة العالمية بعد، ولم يستيئس من الظفر بها، ولكنه لم يقصر عليها جهده ولم يقف عليها حياته، وإنما كان يطلبها ويطلب معها أشياء أخرى هي التي يطلبها الناس في حياتهم؛ فقد كان له زوج وكان له بنون، وكان يمنح زوجه وأبناءه من وقته إجازة الصيف وإجازة الصوم. وهذه الإجازات القصار التي كانت تتخلل دراسة الأزهريين أحيانا. وكان أهله يقيمون في القرية قريبا من القاهرة؛ فلم يكن الانتقال إليهم والارتحال عنهم يكلفان الرجل جهدا ثقيلا أو نقدا كثيرا. وكان ككثير من أهل إقليمه يملك قطعة أو قطعا صغيرة من الأرض، وقد أصهر إلى رجل يملك قطعة أو قطعا من الأرض أيضا، فلم يكن فقير الحال كما كان يقال في ذلك الوقت، ولكنه لم يكن عظيم اليسار؛ وكان قبل كل شيء مقتصدا يوشك اقتصاده أن يبلغ البخل.
وكان حبه للعلم معتدلا، وكانت رغبته في العلم متواضعة، وكان إقباله على الدرس ضئيلا جدا، وكان ذكائه أضأل من إقباله على الدرس، واستعداده لفهم العلم أقل من إقباله عليه، وكان مع ذلك يرى نفسه ذكيا، ويرى نفسه مظلوما؛ لا لأنه تقدم لنيل الدرجة فرد عنها واشتطت عليه اللجنة في الامتحان، فقد أنفق في الأزهر أكثر من عشرين سنة ولم يتقدم للامتحان، وكان يستطيع أن يتقدم بعد اثنتي عشرة سنة، ولكنه لم يفعل؛ لأنه كان يرى الأزهر من وراء منظار قاتم أو شاحب.
كان يسيء الظن بالطلاب، وكان يرى - مخطئا أو مصيبا، وأكبر الظن أنه كان مخطئا - أن الدرجات لا تنال في الأزهر بالذكاء والبراعة، ولا بالجد والتحصيل، وإنما تنال من جهة بالحظ والمصادفة، ومن جهة أخرى بالتملق وحسن الحيلة والمهارة في التوسل إلى الممتحنين. وكان يرى أن الحظ قد ظلمه وتحول عنه لسبب مجهول، وأنه مخفق إن تقدم إلى الامتحان؛ فالخير في ألا يتقدم.
وكان يبتدئ عامه الأزهري مصمما على أن يتأهب للامتحان، فيتفق مع جماعة من أصدقائه على أن يقرأ معهم طائفة من الكتب التي لم يكن بد من إتقانها قبل التقدم للامتحان، ثم لا يمضي شهر أو شهران حتى يشعر بأن الحظ لا يواتيه، فيهمل ثم يكسل ثم ينصرف عن الدرس إلى غيره من شئون الحياة. وكان يعتقد أن الحظ قد ظلمه مرة أخرى، فلم يمنحه من نباهة الذكر ومن هذا الذكاء الخداع ما يلفت إليه الشيوخ، كما منح فلانا وفلانا من أصدقائه، مع أنه في حقيقة الأمر ليس أقل من أصدقائه فهما للعلم، ولا قدرة على التصرف فيه.
Shafi da ba'a sani ba