وقد سمع جملة بعينها شهد الله أنها أرقته غير ليلة من لياليه، ونغصت عليه حياته غير يوم من أيامه، ولعلها أن تكون قد صرفته عن غير درس من دروسه اليسيرة؛ فقد كان يفهم دروسه الأولى في غير مشقة، وكان ذلك يغريه بالانصراف عن حديث الشيخ إلى التفكير في بعض ما سمع من أولئك الشبان النجباء.
وكانت هذه الجملة التي ملأت نفسه وقلبه غريبة في حقيقة الأمر، وقعت على أذنه وهو في أول النوم وآخر اليقظة، فردته إلى اليقظة ليله كله، وهي: «والحق هدم الهدم.» ما معنى هذا الكلام؟ كيف يهدم الهدم؟ وما عسى أن يكون هذا الهدم؟ وكيف يكون الهدم حقا؟ وجعلت هذه الجملة تدور في رأسه كما يدور هذيان الحمى في رأس المريض، حتى صرف عنها ذات يوم بإشكال من إشكالات الكفراوي، أقبل عليه ففهمه وجادل فيه، وأحس أنه بدأ يشرب من ذلك البحر الذي لا ساحل له وهو بحر العلم.
وكان الصبي يجلس إلى جانب ذلك العمود، يعبث بتلك السلسلة، ويسمع للشيخ وهو يلقي دروسه في الحديث، فيفهم عنه في وضوح وجلاء، ولا ينكر منه إلا تلك الأسماء التي كانت تساقط على الطلبة يتبع بعضها بعضا، تسبقها كلمة «حدثنا» وتفصل بينها كلمة «عن».
وكان الصبي لا يفهم معنى لهذه الأسماء ولا لتتابعها ولا لهذه «العنعنة» المملة، وكان يتمنى أن تنقطع هذه العنعنة وأن يصل الشيخ إلى الحديث، فإذا وصل إليه سمعه الصبي ملقيا إليه نفسه كلها فحفظه وفهمه، وأعرض عن تفسير الشيخ؛ لأنه كان يذكره ما كان يسمع في الريف من إمام المسجد، ومن ذلك الشيخ الذي كان يعلمه أوليات الفقه.
وبينما كان الشيخ يمضي في دروسه كان الأزهر يستيقظ شيئا فشيئا، كأنما كانت تنبهه أصوات أولئك الشيوخ الذين كانوا يلقون دروسهم، وما كان يثور بينهم وبين طلابهم من حوار يبلغ العنف أحيانا، فهؤلاء الطلاب يقبلون، وهذه الأصوات ترتفع، وهذا الدوي ينعقد، وهؤلاء الشيوخ ترتفع أصواتهم لتبلغ آذان التلاميذ، بل هؤلاء الشيوخ يضطرون أن ينطقوا بهذه الصيغة التي تؤذن بانتهاء الدرس، وهي: «والله أعلم»؛ لأن الطلاب قد أقبلوا ينتظرون درس الفقه من شيخ غير هذا الشيخ، أو من الشيخ نفسه؛ فلا بد من أن ينتهي درس الفجر ليبدأ درس الصبح.
هنالك كان يقبل على الصبي صاحبه فيأخذه بيده في غير كلام ويجذبه في غير رفق، ويمضي إلى مجلس آخر فيضعه فيه كما يضع المتاع وينصرف عنه.
وقد فهم الصبي أنه قد نقل إلى درس الفقه، وأنه سيسمع هذا الدرس وسيفرغ منه، وسينصرف الشيخ ويتفرق الطلاب، ويبقى هو في مكانه لا يتحول عنه حتى يعود إليه صاحبه من سيدنا الحسين حيث كان يسمع درس الفقه الذي كان يلقيه الشيخ بخيت رحمه الله.
وكان الشيخ بخيت يحب الإطالة في الدرس، وكان طلابه يلحون عليه في الجدال؛ فلم يكن يقطع درسه حتى يرتفع الضحى، وهنالك يعود إلى الصبي صاحبه فيأخذه بيده في غير كلام، ويجذبه في غير رفق، ويمضي به حتى يخرجه من الأزهر وحتى يرده إلى طوره الثاني، فيقطع به الطريق بين الأزهر والبيت، ثم إلى طوره الأول، فيلقيه في مكانه من الغرفة على ذلك البساط القديم الذي ألقي على حصير بال عتيق.
الفصل الرابع
ولم يكن الصبي يفرغ لنفسه إذا أخذ مجلسه على ذلك البساط في ركن من أركان الغرفة، واعتمد بيده أو بساعده على النافذة عن شماله، وإنما كان يستعرض الخواطر التي كانت تملأ رأسه: خواطر الطريق، وخواطر صحن الأزهر، وخواطر ما سمع من أستاذ الحديث وما سمع من أستاذ الفقه. كان يستعرض هذه الخواطر ويعيش معها لحظات لا تطول؛ فإن أخاه لم ينصرف عنه حين ألقاه في مجلسه ذاك ليفرغ لنفسه وحدها، أو لدرسه وحده، وإنما انصرف عنه ليعد طعام الإفطار.
Shafi da ba'a sani ba