إذن فقد أصيب الشاب، ووجد الوباء طريقه إلى الدار، وعرفت أم الفتى بأي أبنائها تنزل النازلة. لقد كان الشيخ في تلك الليلة خليقا بالإعجاب حقا، كان هادئا رزينا مروعا مع ذلك، ولكنه يملك نفسه، وكان في صوته شيء يدل على أن قلبه مفطور، وعلى أنه مع ذلك جلد مستعد لاحتمال النازلة. آوى ابنه إلى حجرته، وأمر بالفصل بينه وبين بقية إخوته، وخرج مسرعا فدعا جارين من جيرانه، وما هي إلا ساعة حتى عاد ومعه الطبيب.
وفي أثناء ذلك كانت أم الفتى مروعة جلدة مؤمنة تعنى بابنها، حتى إذا أمهله القيء خرجت إلى الدهليز فرفعت يدها ووجهها إلى السماء، وفنيت في الدعاء والصلاة، حتى تسمع حشرجة القيء فتسرع إلى ابنها تسنده إلى صدرها وتأخذ رأسه بين يديها، ولسانها مع ذلك لا يكف عن الدعاء والابتهال.
ولم تستطع أن تحول بين الصبيان والشبان وبين المريض، فملئوا عليه الحجرة وأحاطوا به واجمين، وهو يداعب أمه كلما أمهله القيء، ويعبث مع صغار إخوته، حتى إذا جاء الطبيب فوصف ما وصف وأمر بما أمر وانصرف على أن يعود مع الصبح. لزمت أم الفتى حجرة ابنها، وجلس الشيخ قريبا من هذه الحجرة واجما لا يدعو ولا يصلي ولا يجيب أحدا من الذين كانوا يتحدثون إليه.
وأقبل الصبح بعد لأي، وأخذ الفتى يشكو ألما في ساقيه، وأقبلت إليه أخواته يدلكن له ساقيه، وهو يشكو صائحا مرة كاتما ألمه، ومرة أخرى القيء يجهده ويخلع في الوقت نفسه قلب أبويه. وقضت الأسرة كلها صباحا لم تقض مثله قط؛ صباحا واجما مظلما فيه شيء مفزع مروع. فأما خارج الدار فكان يزدحم بالناس، أقبلوا إلى الشيخ يواسونه. وأما داخل الدار فكان يزدحم بالنساء أقبلن يواسين أم الفتى. وكان الشيخ وزوجه عن أولئك وهؤلاء في شغل، وكان الطبيب يتردد بين ساعة وساعة، وكان الفتى قد طلب أن يبرق إلى أخيه الأزهري في القاهرة وإلى عمه في أعلى الإقليم، وكان يطلب الساعة من حين إلى حين ينظر فيها كأنه يتعجل الوقت، وكأنه يشفق أن يموت دون أن يرى أخاه الشاب وعمه الشيخ، يا لها من ساعة منكرة، هذه الساعة الثالثة من الخميس 21 أغسطس سنة 1902!
انصرف الطبيب من الحجرة يائسا، وكأنه قد أسر إلى رجلين من أقرب أصحاب الشيخ إليه بأن الفتى يحتضر،
17
فأقبل الرجلان حتى دخلا الحجرة على الفتى ومعه أمه، ظهرت في هذا اليوم لأول مرة في حياتها أمام الرجال.
والفتى في سريره يتضور؛
18
يقف ثم يلقي بنفسه، ثم يجلس ثم يطلب الساعة، ثم يعالج القيء، وأمه واجمة، والرجلان يواسيانه وهو يجيبهما: لست خيرا من النبي، أليس النبي قد مات! ويدعو أباه يريد أن يواسيه فلا يجيبه الشيخ، وهو يقوم ويقعد ويلقي نفسه في السرير مرة ومن دون السرير مرة أخرى، وصبينا منزو في ناحية من هذه الحجرة، واجم كئيب دهش يمزق الحزن قلبه تمزيقا.
Shafi da ba'a sani ba