حتى إذا كان عصر اليوم الرابع وقف هذا كله فجأة، وقف وعرفت أم الصبي أن شبحا مخيفا يحلق على هذه الدار، ولم يكن الموت قد دخل هذه الدار من قبل، ولم تكن هذه الأم الحنون قد ذاقت لذع الألم الصحيح، نعم! كانت في عملها وإذا الطفلة تصيح صياحا منكرا، فتدع أمها كل شيء وتسرع إليها، والصياح يتصل ويزداد، فتدع أخوات الطفلة كل شيء ويسرعن إليها، والصياح يتصل ويشتد، والطفلة تتلوى وتضطرب بين ذراعي أمها، فيدع الشيخ أصحابه ويسرع إليها، والصياح يتصل ويشتد، والطفلة ترتعد ارتعادا منكرا ويتقبض وجهها ويتصبب العرق عليه، فينصرف الصبيان والشبان عما هم فيه من لهو وحديث ويسرعون إليها، ولكن الصياح لا يزداد إلا شدة، وإذا هذه الأسرة كلها واجمة مبهوتة
2
محيطة بالطفلة لا تدري ماذا تصنع! ويتصل ذلك ساعة وساعة، فأما الشيخ فقد أخذه الضعف الذي يأخذ الرجال في مثل هذه الحال، فينصرف مهمهما
3
بصلوات وآيات من القرآن يتوسل بها إلى الله، وأما الشبان والصبيان فيتسللون في شيء من الوجوم لا يكادون ينسون ما كانوا فيه من لهو وحديث ولا يكادون يستأنفونه، هم كذلك حيارى في الدار! وأمهم جالسة واجمة تحدق في ابنتها وتسقيها ألوانا من الدواء لا أعرف ما هى، والصياح متصل مشتد، والاضطراب مستمر متزايد.
ما كنت أحسب أن في الأطفال - ولما يتجاوزوا الرابعة - قوة تعدل هذه القوة. وتأتي ساعة العشاء وقد مدت المائدة، مدتها كبرى أخوات الصبي، وأقبل الشيخ وبنوه فجلسوا إليها، ولكن صياح الطفلة متصل، فلا تمد يد إلى طعام، وإنما يتفرقون جميعا، وترفع المائدة كما مدت، والطفلة تصيح وتضطرب، وأمها تحدق إليها حينا وتبسط يدها إلى السماء حينا آخر، وقد كشفت عن رأسها وما كان من عادتها أن تفعل! ولكن أبواب السماء كانت قد أغلقت في ذلك اليوم، فقد سبق القضاء بما لا بد منه، فيستطيع الشيخ أن يتلو القرآن، وتستطيع هذه الأم أن تتضرع، ومن غريب الأمر أن أحدا من هؤلاء الناس جميعا لم يفكر في الطبيب، وتقدم الليل وأخذ صياح الفتاة يهدأ، وأخذ صوتها يخفت،
4
وأخذ اضطرابها يخف، وخيل إلى هذه الأم التعسة أن قد سمع الله لها ولزوجها، وأن قد أخذت الأزمة
5
تنحل. وفي الحق أن الأزمة كانت قد أخذت تنحل، وأن الله كان قد رأف بهذه الطفلة، وأن خفوت الصوت وهدوء هذا الاضطراب كانا آيتي هذه الرأفة. تنظر الأم إلى ابنتها فيخيل إليها أنها ستنام، ثم تنظر فإذا هدوء متصل لا صوت ولا حركة، وإنما هو نفس خفيف شديد الخفة يتردد بين شفتين مفتحتين قليلا، ثم ينقطع هذا النفس وإذا الطفلة قد فارقت الحياة.
Shafi da ba'a sani ba