كان له أخ يختلف إلى المدارس المدنية، فعاد من القاهرة ليقضي فصل الصيف، واتفق أنه حضر هذا الامتحان اليومي أياما متصلة؛ فسمع الشيخ يسأل الصبي: أي باب قرأت؟ فيجيب الصبي: باب العطف، مثلا، فإذا طلب إليه أن يعيد ما قرأ، أعاد عليه باب العلم أو باب الصلة والموصول.
سكت الشاب في أول يوم، وفي اليوم الذي يليه، فلما كثر ذلك انتظر حتى انصرف الشيخ، وقال للصبي أمام أمه: إنك تخدع أباك وتكذب عليه، وتلعب في الكتاب، ولا تحفظ من الألفية شيئا. قال الصبي: إنك كاذب! وما أنت وذاك؟ وإنما الألفية للأزهريين لا لأبناء المدارس! وسل القاضي ينبئك بأني أذهب إلى المحكمة في كل يوم. قال الشاب: أي باب حفظت اليوم؟ قال الصبي: باب كذا. قال الشاب: ولكنك لم تقرأ هذا الباب على أبيك، وإنما قرأت عليه باب كذا، وهات نسخة الألفية أمتحنك فيها! بهت الصبي وظهر عليه الوجوم، وهم الشاب أن يقص القصة على الشيخ، ولكن أمه توسلت إليه، وكان الشاب رفيقا بأمه رءوفا بأخيه، فسكت. وظل الشيخ على جهله حتى عاد الأزهري، فلما عاد امتحن الصبي، وما هي إلا أن عرف جلية الأمر، فلم يغضب ولم ينذر ولم يخبر الشيخ، وإنما أمر الصبي أن ينقطع عن الكتاب والمحكمة، وأحفظه الألفية كلها في عشرة أيام.
الفصل الرابع عشر
للعلم في القرى ومدن الأقاليم جلال ليس له مثله في العاصمة ولا في بيئاتها العلمية المختلفة، وليس في هذا شيء من العجب ولا من الغرابة، وإنما هو قانون العرض والطلب، يجري على العلم كما يجري على غيره مما يباع ويشترى. فبينما يروح العلماء ويغدون في القاهرة لا يحفل بهم أحد، أو لا يكاد يحفل بهم أحد، وبينما يقول العلماء فيكثرون في القول ، ويتصرفون في فنونه، دون أن يلتفت إليهم أحد غير تلاميذهم في القاهرة، ترى علماء الريف، وأشياخ القرى ومدن الأقاليم، يغدون ويروحون في جلال ومهابة، ويقولون فيستمع لهم الناس مع شيء من الإكبار مؤثر جذاب، وكان صاحبنا متأثرا بنفسية الريف، يكبر العلماء كما يكبرهم الريفيون، ويكاد يؤمن بأنهم فطروا
1
من طينة نقية ممتازة، غير الطينة التي فطر منها الناس جميعا.
وكان يسمع لهم وهم يتكلمون، فيأخذه شيء من الإعجاب والدهش، حاول أن يجد مثله في القاهرة أمام كبار العلماء، وجلة الشيوخ فلم يوفق.
كان علماء المدينة ثلاثة أو أربعة؛ قد تقسموا فيما بينهم إعجاب الناس ومودتهم، فأما أحدهم فكان كاتبا في المحكمة الشرعية، قصيرا ضخما، غليظ الصوت جهوريه، يمتلئ شدقه بالألفاظ حين يتكلم، فتخرج إليك هذه الألفاظ ضخمة كصاحبها، غليظة كصاحبها، وتصدمك معانيها كما تصدمك مقاطعها. وكان هذا الشيخ من الذين لم يفلحوا في الأزهر؛ قضى فيه ما شاء أن يقضي من السنين، فلم يوفق للعالمية ولا للقضاء، فقنع بمنصب الكاتب في المحكمة، على حين كان أخوه قاضيا ممتازا، قد جعل إليه قضاء أحد الأقاليم. ولم يكن هذا الشيخ يستطيع أن يجلس في مجلس إلا فخر بأخيه، وذم القاضي الذي هو معه. كان حنفي المذهب، وكان أتباع أبي حنيفة في المدينة قليلين، أو لم يكن لأبي حنيفة في المدينة أتباع؛ فكان ذلك يغيظه ويحنقه على خصومه العلماء الآخرين، الذين كانوا يتبعون الشافعي أو مالكا، ويجدون في أهل المدينة صدى لعلمهم، وطلابا للفتوى عندهم، فكان لا يدع فرصة إلا مجد فيها فقه أبي حنيفة، وغض فيها من فقه مالك والشافعي. وأهل الريف مكرة أذكياء؛ فلم يكن يخفى عليهم أن الشيخ إنما يقول ما يقول، ويأتي ما يأتي من الأمر، متأثرا بالحقد والموجدة،
2
فكانوا يعطفون عليه، ويضحكون منه، وكانت المنافسة شديدة عنيفة بين هذا الشيخ وبين الفتى الأزهري، كان الفتى الأزهري ينتخب خليفة في كل سنة، فغاظه أن ينتخب هذا الفتى خليفة دونه، ولما تحدث الناس أن الفتى سيلقي خطبة الجمعة سمع الشيخ هذا الحديث ولم يقل شيئا، حتى إذا كان يوم الجمعة وامتلأ المسجد بالناس؛ وأقبل الفتى يريد أن يصعد المنبر، نهض الشيخ حتى انتهى إلى الإمام، وقال في صوت سمعه الناس: إن هذا الشاب حديث السن، وما ينبغي له أن يصعد المنبر ولا أن يخطب، ولا أن يصلي بالناس وفيهم الشيوخ وأصحاب الأسنان، ولئن خليت بينه وبين المنبر والصلاة لأنصرفن. ثم التفت إلى الناس وقال: ومن كان منكم حريصا على ألا تبطل صلاته فليتبعني. سمع الناس هذا فاضطربوا، وكادت تقع بينهم الفتنة لولا أن نهض الإمام فخطبهم وصلى بهم، وحيل بين الفتى والمنبر هذا العام. ومع ذلك فقد كان الفتى أجهد نفسه في حفظ الخطبة واستعد لهذا الموقف أياما متصلة، وتلا الخطبة على أبيه غير مرة، وكان أبوه ينتظر هذه الساعة أشد ما يكون إليها شوقا، وأعظم ما يكون بها ابتهاجا، وكانت أمه مشفقة تخاف عليه العين، فما كاد يخرج إلى المسجد ذلك اليوم، حتى نهضت إلى جمر وضعته في إناء وأخذت تلقي فيه ضروبا من البخور، وتطوف به البيت حجرة حجرة، تقف في كل حجرة لحظات وتهمهم بكلمات، وظلت كذلك حتى عاد ابنها، فإذا هي تلقاه من وراء الباب مبخرة مهمهمة، وإذا الشيخ مغضب يلعن هذا الرجل الذي أكل الحسد قلبه، فحال بين ابنه وبين المنبر والصلاة.
Shafi da ba'a sani ba