5
إلى الدار وتقبل صاحبنا من حين إلى حين، فيؤذيه خزامها ويروعه.
6
وكان أخوف الأشياء إليه أن يتقدم عن يمينه فيتعرض لكلبي العدويين، أو يتقدم عن شماله فيتعرض لشر «سعيد» وامرأته «كوابس».
على أنه كان يجد في هذه الدنيا الضيقة القصيرة المحدودة من كل ناحية ضروبا من اللهو والعبث تملأ نهاره كله.
ولكن ذاكرة الأطفال غريبة، أو قل: إن ذاكرة الإنسان غريبة حين تحاول استعراض حوادث الطفولة؛ فهي تتمثل بعض هذه الحوادث واضحا جليا كأن لم يمض بينها وبينه من الوقت شيء، ثم يمحي منها بعضها الآخر كأن لم يكن بينها وبينه عهد.
يذكر صاحبنا السياج، والمزرعة التي كانت تنبسط من ورائه، والقناة التي كانت تنتهي إليها الدنيا، و«سعيدا» و«كوابس» وكلاب العدويين، ولكنه يحاول أن يتذكر مصير هذا كله فلا يظفر من ذلك بشيء، وكأنه قد نام ذات ليلة ثم أفاق من نومه فلم ير سياجا ولا مزرعة ولا سعيدا ولا كوابس، وإنما رأى مكان السياج والمزرعة بيوتا قائمة وشوارع منظمة، تنحدر كلها من جسر القناة ممتدة امتدادا قصيرا من الشمال إلى الجنوب، وهو يذكر كثيرا من الذين كانوا يسكنون هذه البيوت رجالا ونساء، ومن الأطفال الذين كانوا يعبثون في هذه الشوارع.
وهو يذكر أنه كان يستطيع أن يتقدم يمينا وشمالا على شاطئ القناة دون أن يخشى كلاب العدويين أو مكر سعيد وامرأته. وهو يذكر أنه كان يقضي ساعات من نهاره على شاطئ القناة سعيدا مبتهجا بما سمع من نغمات «حسن» الشاعر يتغنى بشعره في أبي زيد وخليفة ودياب، حين يرفع الماء بشادوفه ليسقي به زرعه على الشاطئ الآخر للقناة. وهو يذكر أنه استطاع غير مرة أن يعبر هذه القناة على كتف أحد إخوته دون أن يحتاج إلى خاتم الملك، وأنه ذهب غير مرة إلى حيث كانت تقوم وراء القناة شجرات من التوت فأكل من توتها ثمرات لذيذة. وهو يذكر أنه تقدم غير مرة عن يمينه على شاطئ القناة حتى وصل إلى حديقة المعلم وأكل فيها غير مرة تفاحا، وقطف له فيها غير مرة نعناع وريحان، ولكنه عاجز كل العجز أن يتذكر كيف استحالت الحال وتغير وجه الأرض من طوره الأول إلى هذا الطور الجديد.
الفصل الثالث
كان سابع ثلاثة عشر من أبناء أبيه، وخامس أحد عشر من أشقته، وكان يشعر بأن له بين هذا العدد الضخم من الشباب والأطفال مكانا خاصا يمتاز من مكان إخوته وأخواته. أكان هذا المكان يرضيه؟ أكان يؤذيه؟ الحق أنه لا يتبين ذلك إلا في غموض وإبهام، والحق أنه لا يستطيع الآن أن يحكم في ذلك حكما صادقا. كان يحس من أمه رحمة ورأفة، وكان يجد من أبيه لينا ورفقا، وكان يشعر من أخوته بشيء من الاحتياط في تحدثهم إليه ومعاملتهم له. ولكنه كان يجد إلى جانب هذه الرحمة والرأفة من جانب أمه شيئا من الإهمال أحيانا، ومن الغلظة أحيانا أخرى. وكان يجد إلى جانب هذا اللين والرفق من أبيه شيئا من الإهمال أيضا، والازورار
Shafi da ba'a sani ba