189

على أنه لم ينفق في مصر شهورا حتى تبين أنه كان واهما في كل ما قدر، وأن العلماء والمفكرين ناس من الناس يتأثرون بالجماعات التي يعيشون فيها، فيخطئون مثلها ويصيبون. بل هم قد يرون الخطر ويعمدون إليه متابعين للجماعات التي يذهبون مذهبها أو يرون رأيها، وهنالك تبين أن ذلك الشاعر الجاهلي إنما صور حقيقة خالدة من حقائق الجماعات حين قال:

أمرتهمو أمري بمنعرج اللوى

فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد

فلما عصوني كنت منهم وقد أرى

غوايتهم أو أنني غير مهتدي

وهل أنا إلا من غزية إن غوت

غويت وإن ترشد غزية أرشد

وكان أول ما لاحظ بعد أن أقام وقتا قصيرا في مصر، أن الأمر كان مختلفا بين الذين كانوا يرون أنفسهم علماء ومفكرين وبين عامة الناس والشباب منهم خاصة.

فأما أولئك فكانوا يؤمنون بالثورة، ولكنهم كانوا يؤمنون بأنفسهم أيضا؛ وهم من أجل ذلك لا ينظرون إلى الأحداث ولا يشاركون فيها خالصين لها في غير تردد، وإنما كانوا يقدرون لأرجلهم مواضعها قبل الخطو، ولا يتحرجون من نقد الساسة والقادة والتندر بهم حين يقولون وحين يفعلون، وكان هذا الموقف يعرضهم للانقسام على أنفسهم ومشاركة الساسة في الاختلاف حين يتورطون فيه.

وأما عامة الناس - والشباب منهم خاصة - فكانوا مؤمنين بالثورة، قد أخلصوا لها نفوسهم وقلوبهم وأيديهم أيضا، لا يفكرون في عاقبة ولا يخافون هولا مهما يكن. وهم كانوا يعرضون صدورهم لرصاص الإنجليز، ويغامرون بحياتهم مغامرة رائعة على حين كان بعض الساسة القائمين بالحكم في تلك الأيام لا يحفلون بهم ولا بما يلقون، وإنما يصانعون الإنجليز حينا، ويصانعون القصر حينا آخر، ويسخرون من أولئك الذين كانوا ينتظرون في باريس أن تفتح لهم أبواب وزارات الخارجية أو يحاولون في لندن أن يصلوا مع الإنجليز إلى كلمة سواء.

Shafi da ba'a sani ba