188

وشعر صاحبنا بأن عليه منذ اليوم للسلطان دينا يجب أن يؤدى، ولم تمض شهور حتى كان قد أتم أول كتاب أصدره بعد عودته من أوروبا: «صحف مختارة من الشعر التمثيلي اليوناني»، فأهداه إلى السلطان، ورفعه إليه في مقابلة ثالثة التمسها هو وأجيب إليها، وظن أنه قد أدى إلى السلطان حقه وشكر له عطفه عليه وبره به، ولكن السلطان كان يرى شيئا آخر، وينتظر شكرا آخر غير إهداء كتاب مهما يكن موضوعه.

الفصل العشرون

إيمان بالثورة!

لم يكن صاحبنا قد أتم العقد الثالث من عمره حين عاد من أوروبا وأصبح أستاذا في الجامعة، ولكنه كان يعتقد أن تجاربه الكثيرة التي بلا حلوها ومرها في أثناء إقامته في فرنسا قد تجاوزت به هذه السن، ونيفت به على الأربعين؛ فهو قد أنفق في فرنسا أعوام الحرب العالمية كلها، وهو لم يعش تلك الأعوام لاهيا عما كان يجري حوله من الأحداث، ولا غافلا عما كان في هذه الأحداث من عبر وعظات. وهو لا يذكر أنه صرف عن أحداث الحرب وأصدائها في الأمة الفرنسية وغيرها من الأمم المحاربة يوما من الأيام. كان يقرأ الصحف الفرنسية معنيا بقراءتها، وكان يطيل التفكير فيما يقرأ.

وهو لم يعد إلى مصر إلا بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وامتاز المنتصر من المنهزم، وظهرت آثار الانتصار عند الغالبين، وآثار الهزيمة عند المغلوبين، وثلت عروش كان الناس يقدرون لها الخلود، وذلت شعوب كان الناس يقدرون لها سلطانا لا يزول.

وفي أثناء تلك الحرب كانت ثورة لم يعرف التاريخ لها نظيرا إلا الثورة الأمريكية والفرنسية في القرن الثامن عشر. وقد حاولت هذه الثورة أن تحقق نظاما كان الناس يقرءونه في الكتب، ويعتقدون أنه من هذه المثل البعيدة التي لا سبيل إلى تحقيقها.

كل ذلك عرفه صاحبنا وتتبع أنباءه وآثاره في عناية لم تكن أقل من عنايته بالدرس والتحصيل، وهو في هذا الدرس وهذا التحصيل قد قرأ وسمع أساتذته يعرضون ويفسرون تاريخ الأمم القديمة والحديثة، وما اختلف عليها من الأحداث التي تطورت لها نظم الحكم على اختلاف العصور. وكان شديد التأثر بدروس الأستاذ دوركيم في علم الاجتماع، وكان الأستاذ دوركيم قد أنفق عاما كاملا يدرس لتلاميذه مذهب الفيلسوف الفرنسي سان سيمون الذي يقوم على أن أمور الحكم الصالح المنتج الذي يحقق العدل، ويكفل رقي الشعب، ويتيح للإنسانية أن تتقدم إلى أمام، يجب أن تصير إلى العلماء؛ لأنهم هم الذين يستطيعون أن يلائموا بين نتائج العلم على اختلافها وبين حاجات الناس وطاقتهم واستعدادهم للتطور والمضي في سبيل الرقي.

فليس غريبا أن يعود صاحبنا إلى وطنه مؤمنا بالثورة التي نشبت فيه، ومؤمنا في الوقت نفسه بأن عبئا خطيرا من أعباء هذه الثورة سيقع على العلماء والمثقفين من أبناء هذا الوطن. فهم قد عرفوا تجارب الأمم، وعرفوا حقائق العلم، واستطاعوا أن يميزوا بين ما يمكن من الأمر وما لا يمكن، وهم القادرون على أن يقودوا الشعب إلى الخير، ويسلكوا به قصد السبيل، ويعصموه من التورط فيما تورطت فيه شعوب كثيرة فلم تجن منه إلا شرا.

وكان صاحبنا يقدر أن الساسة الذين يقودون الثورة سيختلفون في يوم قريب أو بعيد، ويعتقد أن العلماء والمفكرين سيكونون هم الذين يحققون التوازن بين الساسة حين يختلفون، وسيقضون بينهم فيما يضطرون إليه من الاختلاف.

كان مؤمنا بهذا، وكان مستيقنا أن العلماء والمفكرين لن ينحازوا إلى الأحزاب، ولن يكونوا كغيرهم من عامة الناس، الذين يقادون ولا يقودون. ولم يكن يقدر أن سيشارك في السياسة من قرب أو بعد، ولكنه لم يكن يتردد في أنه لن يحجم عن أداء الواجب، وقول كلمة الحق إن اضطر إلى ذلك غير حاسب للظروف ولا للعواقب حسابا.

Shafi da ba'a sani ba