187

وهز الفتى رأسه ولم يقل شيئا، فتفرقوا عنه، وإن أحدهم ليقول: «دعوه فإنه شيخ!»

ذكر صاحبنا هذه القصة في طريقه إلى القصر فاضطرب لها، فلما ذكره السلطان بأنه كان رئيسا للجامعة وقع في نفسه أن السلطان يريد أن يذكره بتلك القصة، فكاد الاضطراب يغلبه على أمره لولا أن السلطان رده إلى الهدوء بما مضى فيه من حديثه ذاك.

ولم يمض وقت طويل حتى تعقدت الأمور بين الجامعة وبين صاحبنا، فهو قد تبين أن زوجه لا تستطيع أن تمنحه من وقتها كل ما يحتاج إليه للقراءة وإعداد الدروس، ولا تستطيع أن تصحبه دائما إلى الجامعة، ولا أن تخرج معه كلما أراد الخروج، فليس لها بد من أن تعنى بصبيتها ومن أن تقوم على دارها، وإذن فهو محتاج إلى رفيق يقرأ له أكثر النهار، ويغدو معه ويروح كلما أراد غدوا أو رواحا، ولا سبيل إلى أن يقتطع أجر هذا الرفيق من مرتبه، وكان ثلاثة وثلاثين جنيها يقتطع منه في كل شهر ما يؤدي به بعض دينه لشركة التعاون، فطلب إلى الجامعة أن تزيد في مرتبه ما يعينه على أجر ذلك الرفيق، وأبت عليه الجامعة ما طلب كأنها ضاقت بكثرة مطالبه، فاستقال في لهجة شديدة غضب لها مجلس الإدارة أشد الغضب.

وقال سكرتير الجامعة لصاحبنا ذات مساء: إن المجلس مزمع أن يقبل استقالتك وأن يطالبك بأن ترد على الجامعة ما أنفقت عليك في أثناء إقامتك في فرنسا.

وسمع صاحبنا ذلك فضاق به، واكتأب له، وراح إلى أهله محزونا كاسف البال؛ فلما قص الأمر على زوجه هونت عليه الصعب، ويسرت عليه العسير، وأقنعته بأنه كغيره من الناس يخطئ ويصيب، وبأنه أخطأ حين أسرع إلى الاستقالة، والرجوع إلى الصواب خير من الإصرار على الخطأ، وأسرف حين أساء إلى الجامعة التي أحسنت إليه، والرجوع إلى القصد خير من التمادي في الإسراف، فليس عليه بأس أن يسترد استقالته، وليس عليه بأس أن يعتذر من لهجته تلك القاسية.

وأصبح صاحبنا فاسترد استقالته راغما، واعتذر إلى الجامعة راغما أيضا، واقتطع من مرتبه منذ ذلك اليوم أجر ذلك الرفيق الشيخ الذي كان يقرأ له ويغدو معه ويروح.

ولم يعلم الفتى كيف ارتفع أمر هذه الخصومة بينه وبين الجامعة إلى السلطان، ولكن موظف القصر يزوره ذات مساء ويقول له في صوت متضاحك: لقد التمست التشرف بمقابلة عظمة السلطان، وقد حدد لهذه المقابلة منتصف الساعة الثانية عشرة من الغد.

ويدفع إليه كتابا من كبير الأمناء بهذا المعنى، فإذا انصرف عنه قال: سأصحبك غدا إلى القصر.

وتلقى السلطان صاحبنا لقاء حسنا، وتحدث إليه فأطال الحديث ، ثم قال له فجأة: لقد بلغني نبأ استقالتك من الجامعة، وقد أحسنت بالعدول عن هذه الاستقالة، ولا بد من صبر طويل واحتمال كثير من الجهد، فبين هؤلاء الناس وبين حسن الذوق وقت ما زال طويلا، ولكن اذكر دائما ما قلته لك حين لقيتك في المرة الأولى.

ثم دق الجرس ووقف، فوقف الفتى، وأقبل الأمين فقاده إلى خارج الغرفة.

Shafi da ba'a sani ba