وكذلك أخذ يتهيأ لهذا الموضوع الخطير، وأي شيء أخطر بالقياس إلى مصري مثله لم يعرف اللاتينية إلا بأخرة، ولم يسمع في مصر إلا دروس الأزهر في علومه الموروثة ودروس الجامعة التي ليس بينها وبين تاريخ اليونان والرومان صلة - أي شيء أخطر بالقياس إلى مصري مثله من العكوف على هذا المؤرخ الروماني العظيم العسير يقرؤه ويحصي ما فيه من أخبار هذه القضايا، ثم يفهم هذه القضايا من نواحيها القانونية الخالصة، ثم يعرضها بعد ذلك عرضا واضحا مستقيما؟! لقد أحس في نفسه شيئا من الندم على أنه لم يختر لرسالته موضوعا في التاريخ العربي الذي يحسنه، والذي لا يكلفه قراءة في اللاتينية ولا فيما يشبه اللاتينية، ولكنه قد ورط نفسه في هذا الموضوع، وليس له بد من أن ينفذ من مشكلاته، مهما يكلفه ذلك من جهد أو عناء.
وإنه لما بدأ في قراءته تلك العسيرة، إذا حدث يحدث ذات ليلة فيقطع هذه القراءة فجأة، ويضطره إلى أن يترك باريس، ويفر بنفسه وبزوجه إلى جنوب فرنسا، طلبا للأمن واجتنابا للخطر، وكان ذلك حين انتصفت ليلة من ليالي فبراير أو كادت تنتصف، وكان كل شيء هادئا من حول صاحبنا، وكان قد انصرف عن القراءة وأوى إلى مضجعه، وأخذ النوم يسعى إليه أو أخذ هو يسعى إلى النوم، ولكن النذير بالغارة الجوية يوقظ أهل البيت جميعا، وصاحبنا شجاع لا يحفل بالغارة ولا يريد أن يظهر أهل البيت منه على ذعر أو شيء يشبه الذعر، فهو يأبى أن ينهض من مضجعه ساخرا من الغارة والمغيرين، وما أكثر ما سمع أهل باريس هذا النذير! وما أكثر ما اهتم له المهتمون، وسخر منه الساخرون، وانجلت غمرته عن باريس دون أن تلقى منه كيدا! فما يمنع هذه الغارة أن تكون كغيرها من سابقاتها؟ وصاحبنا معتد بنفسه معتز بشجاعته، يرى أهل البيت من حوله يتهيئون للهبوط من طابقهم السادس ليئووا إلى مخبئهم ذاك، وهو ثابت في مضجعه لا يريم، ولكنه يسمع فجأة صوتا مروعا، وينظر فإذا هو يهبط مع الهابطين مسرعا، لا يحفل بما يمكن أن يلقاه من عقبات، ولا يثوب إلى نفسه إلا بعد أن استقر في مجلسه من المخبأ بين اللاجئين إليه من أهل الحي، وهو مستخذ في نفسه، ومستخذ من أهله، ولكن ماذا يصنع وقد كانت الغريزة أقوى من عقله وإرادته جميعا؟
وتنجلي الغمرة، ويأوي الناس إلى مضاجعهم، فإذا أصبحوا رأوا شرا عظيما، فقد سقطت القنابل في الحي اللاتيني نفسه، ودمرت أبنية قريبة من الدار التي كان يسكنها صاحبنا، وهو يحس آثار هذا التدمير في طريقه مصبحا إلى السوربون، ويسمع من أنبائه الشيء الكثير، ولم يخطر له أن في هذا الحادث ما يضطره إلى ترك باريس والهجرة إلى الجنوب، ولكن ظروف زوجه تفرض عليه ذلك بأمر الطبيب، فيهاجر معها إلى مونبلييه مقدرين أن يقيما فيها إلى أن يصل الطفل الذي كانا ينتظرانه، ثم يعودا بعد ذلك إلى باريس.
وهم صاحبنا بعد أن استقر في مونبلييه أن يدرس الحقوق ويتخرج في القانون، يبدأ الدرس في فرنسا ويتمه في مصر بعد أن يعود إليها. ولكن إعداد رسالته تلك شغله عن ذلك، وما أكثر ما لام نفسه وشق عليها في اللوم بأنه لم يتم ما حاول من دراسة القانون! فقد ألمت به في حياته محن وخطوب.
وكان ينظر فيرى نفسه مسئولا عن أسرة فيها صبيان بريئان لم يخاصما السلطان ولم يثيرا غضبه، وعن زوج بريئة غريبة لا شأن لها بما كان يحدث في مصر من الأحداث، ويرى نفسه مع ذلك اضطر إلى شيء يشبه العجز عن رعاية هذه الأسرة والقيام بحقها عليه في تلك الأيام. وكان يذكر رغبته في درس القانون، وكان يقدر أنه لو فعل لاستطاع أن يتجنب التبطل وأن يعصم هذه الأسرة مما كانت تتعرض له من البؤس والضيق، ولكن هذا حديث لم يأت وقته بعد.
أقبل الفتى إذن على درسه، وأقبل في الوقت نفسه على درس اللغة اليونانية، وشاركته زوجه في هذا الدرس، فكانت حياتهما في مونبلييه راضية حقا، فيها نعيم العقل بهذا الإمعان في الدرس والأخذ في كل يوم بسبب جديد من أسباب المعرفة. وفيها نعيم الأمل بانتظار هذا الطفل الذي كان يسعى إلى الحياة في أناة ورفق، وفيها نعيم الرضا بالقليل والقناعة بالرزق الذي مهما يكن مقترا فيه فقد كان يقيم الأود ويعصم من الحاجة ويرضي الزوجين عن نفسهما؛ لأنهما يحسنان التدبير والاحتمال، وكان ربما تعرضا لبعض الهم حين يوشك الشهر أن ينقضي، ويوشك ما بين أيديهما من المال أن ينفد، فيثبتان لذلك في صرامة لا تعرف اللين وشدة لا تعرف الدعة حتى تنجلي عنهما الغمرة ويعود إليهما اليسير العسير مع أول الشهر، إن جاز أن يوصف اليسير بأنه عسير.
وكان الفتى قد أرسل نسخا من رسالته عن ابن خلدون إلى صديق له في مصر بقيت له بعد أن أخذت السوربون خمسين ومئة نسخة، وأخذت الجامعة عشرين نسخة، وأهدى إلى بعض الرفاق والأصدقاء عددا آخر من النسخ، وبقى له نحو مئة نسخة من هذه الرسالة، فأرسل إلى صديقه ذاك رحمه الله ليتصرف فيها كما يحب، ومضى على إرسال هذه النسخ وقت غير قصير حتى نسيها الفتى، ولكنه يتلقى ذات ضحى كتابا من صديقه ذاك ومعه حوالة على أحد المصارف بمقدار من المال لا بأس به كاد يبلغ عشرين جنيها.
ما كان أسعد ذينك الزوجين بهذا الكتاب، وبما حمل إليهما من معونة، كانا في أشد الحاجة إليها! ولا سيما أنه قد قرب مقدم الطفل المنتظر، ولا بد من التهيؤ للقائه، ومن لقائه حين يقبل في إكرام له وعناية به وحفاوة تلائم ما كانا يجدان في مقدمه من السعادة. وكان ربما أدركهما حزن عميق يخفيه كل منهما على صاحبه رفقا به وإشفاقا عليه، فكانت هذه المعونة الطارئة منقذا لهما من هذا العذاب.
وفي يوم من أيام شهر يونيو أقبلت أمينة مع الصبح، واختلط صياحها بغناء الطير المستيقظة، فكان لهذه الموسيقى الحلوة موقع أي موقع في قلب الزوجين أنساهما أو سلاهما عما وجدا في ليلتهما تلك من روع وما تعرضا له من هول.
ولم تجد أمينة أبويها حزينين ولا مهتمين ولا مضيقا عليهما في استقبال زائرهما العزيز؛ فقد أتاح لها ابن خلدون رحمه الله من السعة ما مكنهما من أن يلقيا ابنتهما كأحسن ما يكون اللقاء.
Shafi da ba'a sani ba