ولكنه يلقى صاحبته بعد أن انجلت عنها غمرة العلة، فإذا هي كعهده بها لم تتغير، لم تزدد إقبالا عليه، ولم يجد منها إعراضا عنه ولا نفورا منه. وإنما هي تلقاه كما تعودت أن تلقاه رفيقة به عطوفا عليه، وتقرأ له كما تعودت أن تقرأ له، وتبين له ما يشكل عليه في أثناء القراءة، كما تعودت أن تفعل من قبل، فيرده ذلك إلى شيء من الأمن، ثم إلى شيء من الدعة وراحة البال. وتنقضي أيام، وإذا ذلك الشعور الخفي العميق الذي ظهر فجأة في ساعة من الساعات ثم استحيا وعاد إلى مستقره ذاك من أعماق الضمير، يظهر مرة أخرى، ولكن في تحفظ وتردد وأناة، لا يتحدث إلى الفتاة بشيء، ولا يتحدث إلى الفتى بشيء حين يلقاها، وإنما يكمن في مستقره من أعماق الضمير.
حتى إذا تقدم الليل وخلا صاحبنا إلى نفسه، وهم أن يستقبل النوم خرج ذلك الشعور من مكمنه، وذاد النوم عن صاحبه، وجعل يسامره حتى يوشك الصبح أن يسفر، ثم يعود إلى مكمنه ذاك، ويسلم الفتى إلى نوم قصير.
ولم تلبث آثار هذا الأرق المتصل أن تظهر، وأن يلحظها أهل البيت، وتلحظها معهم ذات الصوت العذب، وهم يسألونه عن أمره فيلتوي بالجواب، وهم يريدون أن يعرضوه على الطبيب فلا يستجيب لما يريدون، وإنما يزعم لهم أن ليس به بأس.
وما يزال هذا شأنه حتى يظهر عليه بعض الضر، وتسأله الفتاة ذات يوم - وقد خلت إليه تقرأ عليه بعض ما كانا يقرأان - فيريد أن يلتوي بالجواب، فتلح عليه، وإذا هو ينبئها مريدا أو غير مريد بأمره كله.
فتسمع له، ثم تسكت عنه، ثم تأخذ في القراءة حتى إذا أتمتها وهمت أن تنصرف قالت له في رفق: وإذن فماذا تريد؟
قال الفتى: لا أريد شيئا.
قالت: فإني قد فكرت فيما أنبأتني به، وأطلت فيه التفكير، ولم أنته بعد إلى شيء، وقد أوشك الصيف أن يظلنا وسنفترق، فاصبر حتى إذا كان افتراقنا فستتصل بيننا الرسائل كما تعودنا أن نفعل، فإذا قرأت في بعض رسائلي أني أدعوك إلى أن تنفق معنا بقية الصيف فاعلم أني قد أجبتك إلى ما تريد، وإن لم تقرأ هذه الدعوة حتى ينقضي الصيف فاعلم أنها الصداقة الصادقة بينك وبيني ليس غير.
ولم يسعد الفتى بشيء قط كما سعد بهذا الحديث، وكانت آية سعادته أنه أطرق ولم يقل شيئا.
وأقبل الصيف وكان الافتراق، وذهبت هي إلى قرية في أقصى الجنوب، وأقام هو في باريس، واتصلت بينهما الرسائل، ولكنها قبل أن تفارقه كلفت زميلة لها أن تكون هي الكاتبة القارئة لرسائلهما حتى لا يطلع على هذه الرسائل زميل من زملائه.
واتصل الفراق شهرا ... ولكن رسالة تصل إليه في آخر هذا الشهر وفيها الدعوة المرتقبة إلى أن يقضي معها ومع أسرتها بقية الصيف. وإذن فقد تحقق أمله، أو كاد أن يتحقق، وهو يعلن إلى زملائه المصريين أنه سيترك باريس إلى حيث يقضي الصيف مع تلك الأسرة، وهم يصدونه عن ذلك مشفقين عليه.
Shafi da ba'a sani ba