وذهبا إلى مكتب التلغراف، وكتب الصديق إلى الجامعة هذه البرقية، لم يؤامر فيها الفتى، وإنما قرأها عليه بعد أن انصرفا من المكتب:
حضرة سكرتير الجامعة المصرية بالقاهرة
لبثنا في حضرة الجناب العالي ربع ساعة لقينا فيه من لطف الملك وعطفه على الجامعة وعلينا ما أطلق ألسنتنا بالحمد له والثناء عليه.
طه حسين
وأنفق الصديقان ساعات حلوة في الإسكندرية، يهيمان على ساحل البحر، ويأخذان في ألوان من الحديث فيها قليل من جد وكثير من العبث، واستكشف الفتى في صديقه خصلة لم يكن يعرفها منه، وهي الإسراف على نفسه في الأكل، فلم يكن يلقى شيئا يؤكل مما يحمله الباعة المتجولون إلا اشترى منه وأقبل عليه يزدرده ازدرادا، والغريب أنه أقبل على عشائه كأنه لم يأكل قبله شيئا. ثم قضيا ليلتهما في فندق تيمن الصديق باسمه، وقال لصاحبه: فأل حسن! ستسافر إلى فرنسا لأن الفندق يتسمى باسمها، وينسب إليها.
ولم يبلغ الفتيان مدينة القاهرة، حتى قال الصديق لصاحبه: إذا أدى إليك علوي باشا جائزته فاذكر أنك مدين لي بستة جنيهات، واحذر أن تبطئ في أدائها إلي!
وكان قبض هذه الجائزة أثقل على الفتى من لقائه للأمير، فقد دعي إلى العشاء على مائدة علوي باشا، مع أساتذته الذين امتحنوه ، فجلس إلى المائدة، ولكنه لم يصب من الألوان التي قدمت إليه شيئا، كان شديد الحياء بطبعه، وكانت المهابة تملك نفسه وتفسد عليه أمره كله. وكان لا يدري ماذا يصنع بشخصه كله وقد وضعت أمامه أدوات المائدة فلم يكد يمسها حتى أدركه منها ذعر شديد ... ماذا يصنع بالملعقة؟ وماذا يصنع بالشوكة والسكين؟! وكيف يتصرف بها؟ أليس الخير كل الخير في أن يلبث في مكانه هادئا ساكنا لا يعرض نفسه لسخرية أو إشفاق؟
وظل في مكانه هادئا ساكنا أيضا لا يحرك يدا ولا لسانا.
وأقبل الأساتذة على طعامهم غير هيابين ولا وجلين ولا مترددين ولا حافلين بهذا الفتى الجالس بينهم كأنه التمثال! قد انعطف أعلاه على أسفله، وهو مغرق في السكون والصمت لا يصنع شيئا ولا يقول شيئا. كان يستحي أن يحرك يده أو لسانه، وكان يستخذي من سكونه وصمته، وكان يتعجل مر الساعات ويتمنى أن تعود إليه حريته حين يرد إلى غلامه ذاك الأسود الذي كان ينتظره غير بعيد. وكان علوي باشا وحده يلح عليه في أن يصيب من هذا اللون أو ذاك، فلما استيأس منه، قال في صوت حزين: أرجو أن يكون خادمك قد أعد لك ما يعشيك.
وقد فرغ القوم من طعامهم، وأخذوا في أطراف من الحديث، وشاركهم الفتى في بعضها، ثم قام الباشا فأدار مفتاحا في خزانة وجذب إليها درجا من أدراجها ثم أعاد إغلاقها، ثم أقبل على الفتى فدس في يده ورقة تصبب جبينه لها عرقا، فلما أصبح عرف أنها كانت الشيك الذي دعي إلى العشاء ليتسلمه.
Shafi da ba'a sani ba