واتصلت أسباب الفتى بثلاثة من الصديق غير صاحبيه: الزناتي والزيات، كان لكل واحد منهم أثر أي أثر في حياته الجامعية، وكان لاثنين منهم أثر بعيد عميق في حياته بعد أن جاوز طور الطلب وأصبح أستاذا ومؤلفا، عرف أحد هؤلاء الثلاثة في الجامعة، كان يختلف مثله إلى دروسها، ولم يكن أزهري النشأة، وإنما كان من فئة المطربشين، كان متوقد الذهن، نافذ الذكاء، قوي الذاكرة، محبا للدرس. وكان إلى ذلك حلو الروح، رقيق الصوت، ساحر الحديث، وقد ألفه الفتى في دروس اللغات السامية، وبفضله استطاع أن يفرغ لهذه الدروس، ويحسن العناية بها، ويحفظ كثيرا من النصوص السريانية عن ظهر قلب. كان رفاقه الأزهريون ينفرون من هذه الدراسات ويكرهون أن يثقلوا على أنفسهم بها. وكان ذلك الصديق لها محبا وبها كلفا، فكان يلقى الفتى في دروس الأستاذ ليتمان فيكتب عن الأستاذ كل ما كان يقول، وكان يخلو إلى صديقه بعد ذلك فيعيد معه الدرس والاستظهار.
ولم ينس الفتى يوما احتفل فيه طلاب الجامعة بوداع أستاذهم ليتمان في آخر العام بفندق من فنادق مصر الجديدة، وشهد هذا الاحتفال أساتذة الجامعة من المصريين والمستشرقين؛ وخطب الطلاب مثنين على أساتذتهم، فأكثروا، ثم قام هذا الصديق فأثنى على الأساتذة المستشرقين، وعلى الأستاذ ليتمان خاصة، ولكنه لم يخطب باللغة العربية ولا بلغة أوروبية، وإنما ألقى كلمته باللغة السريانية، وتصور رضا الأساتذة الأجانب عنه وإعجابهم به واغتباط الأستاذ ليتمان بما أتيح له من نجح، وبأن تلميذا من تلاميذه المصريين قد استطاع أن يخطب بهذه اللغة القديمة التي لا تجري بها الألسنة إلا في بعض الكنائس وفي قاعات الجامعات بين الأساتذة والطلاب.
وقد رأى الفتى أستاذه ليتمان بعد ذلك مرات كثيرة في مواطن مختلفة، فلم يحس عنده مثل هذه السعادة إلا في موطنين اثنين: أحدهما؛ في ليدن بهولندا عندما سمع تلميذه الفتى يلقي بحثه في مؤتمر المستشرقين، فلم يملك دموعه التي أخذت تفيض على وجهه بين الزملاء، والآخر: في كلية الآداب بجامعة القاهرة عندما شارك تلميذه في امتحان السيدة سهير القلماوي لدرجة الماجستير، وأعلن مفاخرا بعد فوزها بالدرجة أنه مغتبط سعيد؛ لأنه يشارك في تخريج هذه الفتاة التي يعدها حفيدته، لأنها ابنة تلميذه ذاك الفتى، وما أكثر ما تحدث بعد ذلك بأنه جد في علم له ابن وله حفدة.
أما الصديق الثاني: فقد كان أزهريا مبغضا لدروس الأزهر، شديد النفور منها، قليل الإلمام بمجالس الشيوخ، غير حفي بالجامعة ولا مكترث لها ولا مختلف إليها، ولم يعرفه الفتى في الأزهر ولا في الجامعة، وإنما عرفه في قهوة الكلوب المصري قريبا من سيدنا الحسين، وكان غريب الأطوار، يضحك من نفسه، وربما أغرى الناس بالضحك منه.
كان من أهل القرن الثالث أو الرابع، وكان يعيش في القرن الرابع عشر للهجرة، كان قليل الاحتفال بزيه وشكله وبزته، يهمل هذا كله إهمالا ظاهرا، ربما تكلفه ممعنا في مخالفة الناس، وكان معنيا باللغة يجد في إتقانها ويتتبع غريبها، فيحفظه ويحصي نوادره، وكان مع ذلك شغوفا بالحياة الحديثة يأخذ منها طيباتها حين تتاح له، ويكره أن يتعمقها أو يعرف دقائقها، وحاول أن يتعلم الفرنسية فلم يحسن منها إلا تحية الصباح وتحية المساء وجملا قصارا، يلقيها بعض الناس إلى بعض حين يلتقون، ثم ضاق بها فأعرض عنها، واكتفى من الحياة الحديثة بما كان يصيب من طيباتها بين حين وحين.
وكان قد أقبل من أقصي الصعيد، واحتفظ بلهجته تلك فلم يكد يغير منها شيئا، وكان ربما أضفى هذه اللهجة على تلك الجمل الفرنسية التى كان يلقيها فيضحك منها ويضحك الناس.
وبفضل هذا الصديق استطاع الفتى أن يقرأ آثار أبي العلاء عندما حاول أن يضع رسالته لنيل درجة الدكتوراه من الجامعة. كان يغدو عليه في داره بدرب الجماميز إذا كان الضحى، فلا يفارقه إلا إذا أقبل الليل، وكان يقرأ له اللزوميات وسقط الزند وما شاء مما حفظ عن أبي العلاء، كان يقرؤه متغنيا به غناء عذبا. وكان الفتى يسمع منه ويحفظ عنه، ويطرب لإنشاده وغنائه، وما زال كلما قرئ عليه شعر أبي العلاء لم يسمع صوت قارئه، وإنما يسمع صوت صديقه ذاك مترنما بهذا الشعر في صوته ذاك العذب الذي كان يضطرب بين الخشونة واللين.
ولم يذكر الفتى كم مرة قرأ شعر أبي العلاء ونثره مع صديقه ذاك، ولكنه عرف أنه قرأه مرات كثيرة وتأثر به أعمق التأثر، وآمن به أشد الإيمان، واستيقن أن حياة أبي العلاء تلك هي الحياة التي يجب عليه أن يحياها ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
ورأى الفتى نفسه ذات يوم مستعدا لإملاء رسالته، فتجرد صديقه ذاك للكتابة، وجعل الفتى يملي، والصديق يكتب، فإذا احتاج إلى الاستشهاد بشعر أبي العلاء أو نثره أو بما شاء الله أن يستشهد به من كلام القدماء، بحث الصديق له عن هذه النصوص وأثبتها في مواضعها من الرسالة، وفي أشهر قليلة تم الإملاء وتمت الكتابة. وقرأ الصديق على صاحبه رسالته متغنيا بنثرها وشعرها، كما كان يتغنى بنثر أبي العلاء وشعره، واطمأن الفتى إلى رسالته، وأزمع أن يقدمها إلى الجامعة، ولكن كيف السبيل إلى تقديمها وليس عنده منها إلا هذه النسخة التي كتبها الصديق، وعليه أن يقدم منها نسخا خمسا؟
وهنا يظهر الصديق الثالث فيحمل عن الفتى ثقل هذا العناء، وكان هذا الصديق الثالث أزهري النشأة أيضا، ولكنه كان من طراز آخر مخالف كل المخالفة لمن عرف الفتى في الأزهر والجامعة من الرفاق، كان حسن الصورة، وسيم المنظر، رائق الشكل، معنيا بزيه أشد العناية، يتكلف فيه الأناقة وينسق بين ألوانه تنسيقا، وكان شديد عذوبة الصوت، ممعنا في خفة الروح، ظريفا لبقا مترفا إلى حد ما. كان أبوه شيخا كريما ميسرا عليه في الرزق، مبسوط اليد في الإنفاق على ابنه ذاك، ولكنه كان على ذلك معتدلا محافظا على التقاليد. وكان ابنه طموحا إلى مزيد من نعيم الحياة، وما أباح الله من طيباتها، فلم يكفه ما كان أبوه يعطيه من المال، فسعى حتى أصبح مدرسا في كلية الفرير، ليضيف نفقة إلى نفقة، وليحسن العناية بنفسه وزينته، وكان أبوه يرى ذلك فلا يصده عنه، وإنما ينظر إليه مبتسما مشجعا، يرى أن خير ما يصنع الشباب إنما هو الجد والعمل والاعتماد على النفس وكسب المال، ما وجدوا إلى كسبه سبيلا. وكان الفتى ورفاقه ينظرون إلى هذا الصديق في شيء من الإعجاب به والرثاء له؛ يعجبون به لثرائه وظرفه، ويرثون له لأنه لم يكن يحب الدرس، ولم يكن يتعمق لونا من ألوان العلم، وإنما كان يلم بهذا كله إلماما، يختلف إلى دروس الأزهر ليسخر من الشيوخ والطلاب، ويختلف إلى دروس الجامعة ليقى أترابه وليتحدث عن الجامعة بين زملائه من المصريين والفرنسيين في كلية الفرير. وكان يضحك من كل شيء، ومن كل إنسان، ويتندر بكل شيء وبكل إنسان، ويرى الحياة فكاهة حلوة يجب أن يأخذ الإنسان منها خير ما فيها.
Shafi da ba'a sani ba