وقد انصرف الفتى، ثم لم يلبث أن تبين وتبين معه صاحباه، أن شيخ الجامع لم يعاقبهم ولم يمح أسماءهم من سجلات الأزهر، وإنما أراد تخويفهم ليس غير.
ومنذ ذلك الوقت اتصل الفتى بمدير الجريدة وجعل يتردد عليه، حتى جاء وقت كان يلقاه فيه كل يوم.
وفي مكتب مدير الجريدة ظفر الفتى بشيء طالما تمناه، وهو أن يتصل ببيئة الطرابيش بعد أن سئم بيئة العمائم، ولكنه اتصل من بيئة الطرابيش بأرقاها منزلة وأثراها ثراء، وكان وهو فقير متوسط الحال في أسرته، سيئ الحال جدا إذا قام في القاهرة، فأتاح له ذلك أن يفكر فيما يكون من هذه الفروق الحائلة بين الأغنياء المترفين والفقراء البائسين.
الفصل العشرون
واشتد ضيق الفتى بالأزهر وأهله وبحياته في القاهرة، غارقا فيما لا يحب، مقصى عما تشتهيه نفسه ويتحرق إليه قلبه، حتى لقد كان يصل إلى القاهرة في أول العام الدراسي، فلا يكاد يستقر فيها حتى يدعو آخره متشددا في الدعاء أو ملحا فيه. والله وحده يعلم كم كان يسعد ويبتهج حين كانت بشائر الصيف تقبل، وحين كانت أرجاء الحي الذي كان يقيم فيه تمتلئ بهذه الروائح الكريهة التي كانت تبعثها حرارة الشمس فتملأ الهواء وتجعل التنفس ثقيلا بغيضا. وحين كان لا يجلس إلى شيخ من شيوخه في درس من دروس الظهر أو درس من دروس المساء إلا أسرع النوم إلى رأسه فخفق به خفقا عنيفا يلفت إليه الطلاب من حوله فيوقظونه جادين أو هازلين.
كان مقدم الصيف يملأ صدره حبورا وبشرا؛ لأنه كان يؤذن بقرب الإجازة والعودة إلى الريف والراحة من الأزهر والأزهريين، ولم يكن يحب الإجازة لهذا وحده، ولم يكن يحبها لأنه سيلقى فيها أهله، ولأنه سينعم فيها بما كان يمتنع عليه في القاهرة من طيبات الحياة، وإنما كان يحب الإجازة لهذا كله ولشيء آخر كان أعظم في نفسه خطرا وأبعد أثرا من هذا كله؛ فقد كانت الإجازة أنفع لعقله وقلبه من العام الدراسي كله.
كانت الإجازة تمكنه من أن يفرغ لنفسه فيفكر - وما أكثر ما كان يفكر! ومن أن يخلو إلى إخوته فيقرأ - وما أكثر ما كان يقرأ وما أشد تنوعه وأعظم فائدته!
كان شباب الأسرة يعودون من معاهدهم ومدارسهم وقد ملئوا حقائبهم بتلك الكتب التي لا تتصل بدراستهم المنظمة، ولا يتاح لهم أن يقرءوها في أثناء العام، وكانت هذه الكتب ألوانا، منها الجد ومنها الهزل، منها ما ألف ومنها ما ترجم، منها القديم ومنها الجديد.
فكان هؤلاء الشباب لا ينفقون أياما في الأسرة حتى يسأموا البطالة ويعافوا الكسل ويقبلوا على كتبهم هذه، فيعكفوا عليها نهارهم وأطرافا من ليلهم، وكان أبوهم الشيخ يحب منهم ذلك ويحمده لهم. وربما ضاق منهم بذلك ولامهم فيه حين كانوا يقبلون على القصص الشعبي فيغرقون في ألف ليلة وليلة، أو في قصص عنترة وسيف بن ذي يزن.
ولكنهم كانوا يقبلون على كتبهم هذه رضيت الأسرة أو سخطت، وكانوا يجدون في هذه الكتب من المتاع واللذة أضعاف ما كانوا يجدون في كتبهم الدراسية، وكانوا يقرءون ما ترجم فتحي زغلول عن الفرنسية، وما كان السباعي يترجم عن الإنجليزية، وما كان جورجي زيدان يكتب في الهلال من مقالات، وما كان ينشر من قصص، وما كان يؤلف من كتب في تاريخ الأدب والحضارة، وما كان يعقوب صروف يكتب في المقتطف، وما كان الشيخ رشيد يكتب في المنار.
Shafi da ba'a sani ba