فقد الأئمة كالإمام المغربي
وقد روى المصريون جميعا عن الشيخ بعد ذلك العهد بأعوام طوال بيتا آخر لم ينسه ظرفائهم بعد، وقد سار فيهم كما تسير الأمثال، وهو:
إنا مع الأمرا والوفد والوزرا
على وفاق له في القلب تأييد
وكان الفتى ربما جادل الشيخ فأطال الجدال. وقد أسرف الجدال مرة في الطول حتى تأخر الدرس عن إبانه، وتصايح الطلاب من جوانب المسجد الحسيني بالشيخ أن حسبك فقد نفد الفول. فأجابهم الشيخ في غنائه الظريف: لا والله لا نقوم حتى يقتنع هذا المجنون. ولم يكن بد للمجنون من أن يقتنع؛ فقد كان هو أيضا حريصا على أن يدرك الفول قبل أن ينفد.
وكان درس البلاغة أثيرا عند الفتى، لا لما كان يحصل فيه من علم؛ فقد مضى منذ وقت طويل إقبال الفتى على الدروس في الأزهر لتحصيل العلم، وإنما كان يقبل عليه أداء للواجب وقطعا للوقت والتماسا للفكاهة. وكان درس البلاغة أثيرا عنده؛ لأنه كان يجد فيه هذه الفكاهة، ولأن الشيخ - نضر الله وجهه - كان سمح النفس رضي الخلق مخلصا في درسه للعلم وللطلاب، ولأنه بعد ذلك كان يكلف نفسه في الفهم والإفهام جهدا عظيما وعناء ثقيلا، وكان إذا بلغ منه الجهد رفه على نفسه بهذه الجملة يوجهها إلى طلابه بين حين وحين، في لهجة منياوية عذبة مضحكة: «فاهمين يا سيادي؟»
وكان إذا انتصف الدرس أشفق على نفسه وعلى الطلاب فقطع القراءة والتفسير وأقام دقائق صامتا لا ينطق، وأقبل على نشوقه فالتهم منه بأنفه ما استطاع في تؤدة وروية وأناة. وكان الطلاب ينتهزون هذه الفرصة ليطفئوا ما كان يتأجج في بطونهم من نار الفول والطعمية والكراث بقدح من أقداح الشراب الذي كان يطوف به الباعة عليهم في أثناء الدروس، ويدعونهم دعاء لطيفا بهذا النقر الخفيف الذي كان يمس به الزجاج فيبعث إلى الآذان صوتا خفيفا ظريفا.
وفي ذات يوم كان الفتى يستريح مع بعض أصحابه أثناء هذه السكتة، وكان الشيخ مقبلا على نشوقه والطلاب على شرابهم، وإذا أحد المشدين يأتي فيدعو الفتى وصاحبيه في رفق إلى غرفة شيخ الجامع.
ولكن هذه قصة لم يأت وقتها بعد، وإن كان الناس قد عرفوها منذ وقت بعيد، وقد قام الفتى وصاحباه عن الدرس ثم لم يعودوا إليه بعد ذلك.
وفي هذا الوقت أو قريبا من هذا الوقت، وقعت قصة دخل فيها الفتى ومضى فيها إلى غايتها، ولكنها قضت في نفسه على كل أمل في أن يظفر بنجاح في الأزهر قليل أو كثير.
Shafi da ba'a sani ba